يوم الأربعاء الماضي '31/8' وقعت الحوادث التالية في بر مصر: ● قام 500 شخص بقطع الطريق البري بين القاهرة والإسكندرية لمدة سبع ساعات، معبرين عن ثورتهم وغضبهم، بعدما قامت سيارة مجهولة بدهس صبي من أبناء منطقة وادي النطرون مما أدي إلي قتله علي الفور. وكان الصبي عامر فؤاد شعبان، 12 سنة، يحاول عبور الطريق، لكن السيارة فاجأته من حيث لا يحتسب وأفقدته حياته، ولأنها لم تكن المرة الأولي التي يقتل فيها واحد من أبناء المنطقة بهذه الصورة، ولأن أصوات الأهالي بحت منذ سنوات وهم يطالبون الجهات المعنية بإقامة جسر يمكن الراغبين من عبور الطريق بصورة آمنة، فإنهم لم يجدوا مفرا من الخروج إلي الشارع وتعطيل المرور فيه حتي تصل أصواتهم إلي أولي الأمر. وحين فعلوها، وأوقفوا حركة المرور في الذهاب والعودة. ووصل طول السيارات الواقفة إلي عشرين كيلو مترا علي الجانبين، جري استنفار كل المسئولين في أجهزة الأمن والإدارة المحلية. وتعهد محافظ البحيرة أمامهم بإقامة الجسر. وعلي مسمع منهم أجري اتصالا بالمدير المسئول عن هيئة الطرق والكباري للشروع في تنفيذه علي الفور. وحينئذ فقط انصرف الناس إلي بيوتهم وعادت الحياة إلي الطريق مرة أخري. ●في أسوان .. خرج أهالي قرية عبادي التابعة لمركز ادفو، وقطعوا الطريق السريع من أسوان إلي القاهرة تعبيرا عن غضبة من نوع آخر. ذلك أنهم منذ إنشاء القرية قبل خمسة عشر عاما وهم يعانون من مشكلة المياه الجوفية التي تتسرب إلي بيوتهم. حتي باتت تهددها بالانهيار فوق رءوسهم. اشتكوا لكل مسئول في المحافظة. وأوصلوا شكاواهم إلي وزراء الري المتعاقبين الذين اسمعوهم وعودا لم يتحقق منها شيء. وحين فاض بهم الكيل ورأوا شبح الموت يقترب منهم كل يوم أكثر، فإنهم لم يجدوا مفرا من إطلاق صرختهم في الهواء من خلال قطع الطريق المؤدي إلي القاهرة، علَّ أحدا يسمعهم في العاصمة. وحين فعلوها توقفت حركة القطارات، كما توقفت 9 حافلات كبيرة حملت مجموعات من السياح كانوا في طريقهم من أسوان لزيارة الأقصر، ولم ينصرفوا إلا بعد أن وعدهم مساعد وزير الداخلية ومدير الأمن بالمحافظة، بأن وزير الري سيتابع مشكلاتهم بنفسه، وأن انتظارهم لن يطول حتي يحل الإشكال. ● في محافظة دمياط .. كانت هناك مشكلة أخري، في عزبة البداري التابعة لكفر سعد فوجئ الأهالي بأن صاحب المخبز الذي يبيع الخبز المدعوم خفض إنتاجه اليومي من 7500 رغيف إلي 4500 رغيف، الأمر الذي أحدث أزمة خانقة في القرية التي فوجئت بأن ثلث استهلاك الناس من الخبز انقطع فجأة، وأن الدقيق الذي توفره الحكومة للناس مدعما أصبح يهرب لكي يباع في السوق السوداء. لم يسكتوا فقرروا أن يحاصروا المخبز ليجبروا صاحبه علي وقف التلاعب بالدقيق المدعوم. فما كان من الرجل إلا أن استعان بأشقائه وببعض البلطجية الذين هاجموا الأهالي المحاصرين، مستخدمين في ذلك العصي والأسلحة البيضاء. الأمر الذي أوقع سبعة من الجرحي، وأدي إلي استدعاء قوات كثيفة من الشرطة التي تدخلت لوقف المعركة. هذا كله ليس جديدا. فكم واحدا من أبناء وادي النطرون قتلتهم السيارات المسرعة بين القاهرة والإسكندرية. ومشكلة أهالي قرية عبادي عمرها خمسة عشر عاما. وتلاعب صاحب مخبز عزبة البداري ليس وليد اليوم، لأن التلاعب في الدقيق المدعوم وتهريبه لكي يباع في السوق السوداء لأصحاب محال الحلوي أمر شائع يمثل القاعدة المستقرة في السوق، وإيصال الرغيف المدعوم إلي مستحقيه استثناء نادر. أما الجديد فهو أن الناس كسروا حاجز الصمت فرفعوا صوتهم عاليا، وخرجوا من حالة السكون والامتثال إلي حالة الفعل الغاضب والتمرد العلني. ورغم أنني لست من مؤيدي هذه الممارسات التي قد تشيع الفوضي في البلاد، إلا أنني أري فيها رسالة يجب أن تقرأ جيدا من جانب أهل القرار والنخب التي تتراشق وتتعارك في القاهرة دون أن تكون علي وعي بما يجري خارجها. الرسالة التي أعنيها هي أن أعدادا هائلة من المواطنين في مصر يعانون من تلك المشكلات التي أشرت إليها، ومما هو أكثر منها. وضحايا الحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية ومن مياه الشرب النقية ومن التيار الكهربائي، ومن الفقر والبطالة ومن فساد أجهزة الإدارة المحلية فهؤلاء بالملايين. وإذا كان بعضهم أصبحوا يخرجون علينا بين الحين والآخر معبرين عن غضبهم ونقمتهم، فينبغي أن نتعامل مع أمثال تلك الحوادث باعتبارها رسائل وانذارات متتالية، تدعو الجميع إلي الالتفات إلي ما يجري بعيدا عن العاصمة وشاشات التليفزيون. أدري أن التعامل مع تراكمات الأربعين سنة الماضية ليس أمرا سهلا ويحتاج إلي وقت طويل لعلاج التشوهات التي أحدثتها. لكنني أتحدث عن جهد يطمئن ملايين المحرومين إلي أنهم علي البال، وأن مشكلاتهم إذا لم تحل الآن، فإن ثمة أملا في حلها ولو بعد حين. وهذا الأمل لا توفره أخبار الصحف وتصريحات المسئولين، لكنه يتحقق بجهد فاعل علي الأرض يطمئن الناس إلي أن الخطوات الأولي في رحلة الألف ميل قد بدأت، وإذا لم يحدث ذلك فإن ثورة المحرومين ستكون التطور الثاني بعد ثورة 25 يناير.