تستفزنى بشدة عمليات تأنيب وتبكيت الناس المستمرة بل ومعايرتهم بشكواهم، تلك التى يقوم بها المسئولون من كبيرهم إلى صغيرهم ولسان حالهم يقول: «احمدوا ربنا أنكم تعيشون»، وكأن مشكلة مصر فى شعبها «المفترى»!. للأسف نسى هؤلاء أو يتناسون أن من يعايرونهم الآن بشكواهم، قدموا الشهداء ولا يزالون، وقدموا التضحيات من أمنهم وقوت يومهم ومستمرين، حتى لا تعود السياسات البالية من جديد، أو يبقى وطنهم أسير صندوق النقد والبنك الدولى، ومجموعات المصالح والفساد التى عاشت ولا تزال على امتصاص دماء الشعوب. كتبت العدد الماضى تحت عنوان: «الشعب النمرود!» وقلت: إن الحكومة أفرطت فى تدليل المواطنين والطبطبة عليهم، وأخطأت عندما وافقت أن تحكم أمثالنا من الفقراء ولم تفكر فى استيراد شعب جديد جميل ووديع!. قلت: إن السادة الوزراء والمسئولين أخطأوا ب«رهافة حسهم وتواضعهم»، عندما وافقوا أن يعيشوا معنا فى وطن واحد، رغم فقرنا و«أشكالنا المشلفطة» و«هدومنا المبهدلة»، نشاركهم الهواء الذى يستنشقونه، بل سمحوا لعششنا وعشوائياتنا أن تشوه قصورهم. وقد عاتبنى البعض على السخرية التى غلفت المقال، منتقدين أننى لم أقترح حلولا لمشكلاتنا المتراكمة، مكتفيًا بتوبيخ الحكومة.. وقال لى زميل: إن مصر تتعرض لمؤامرة كبرى، والهجوم فى هذا الوقت على السياسات الحالية، يصب فى مصلحة جماعة الإخوان الإرهابية.. والأهداف الغربية. وحقيقة الأمر مشكلتنا أو بالأحرى مصيبتنا، ليست فى تدنى إيرادات السياحة، أو تراجع تحويلات المصريين فى الخارج.. وليست فى غياب الحلول، وإنما فى عدم وجود إرادة حقيقية لدى النخبة الحاكمة لخلق واقع جديد، ومعادلات مختلفة، فأى مسئول فى الدولة يدرك جيدًا: لماذا خرج الناس للشوارع فى ثورة يناير.. ولماذا تحولت المظاهرات المطالبة بإقالة حبيب العادلى إلى ثورة شعبية خلعت مبارك. أعتقد أن المسئولين يفهمون جيدًا لماذا خرج الملايين فى 30 يونية و3 يوليو ليعزلوا مرسى ويدفعوه وجماعته إلى مزبلة التاريخ.. ولماذا رفع المتظاهرون فى الثورتين، صور الزعيم الخالد جمال عبدالناصر وسيرفعون صوره فى المستقبل. أى حكومة لم تفهم بعد أن مصر قامت بثورة شعبية أو بالأحرى ثورتين لمواجهة سياسات بعينها يجب التخلى عنها وتغييرها، هى «حكومة غبية».. وستلقى غير مأسوف عليها مصير الحكومات التى سبقتها. أما المؤامرة على مصر، فهى ممتدة وتفاصيلها واضحة منذ «كامب ديفيد».. وتيارات الإسلام السياسى والإخوان فى قلبها، جزء من هذه المؤامرة، لكن مواجهة المؤامرات لا تكون بمجرد الحديث عنها، وتخويف الناس منها، وإنما باتخاذ الإجراءات الحقيقية لإفسادها، ولن يكون ذلك إلا بتغيير البيئة والظروف التى تساعد على نجاح المتآمرين فى تحقيق مآربهم. انظروا إلى وجوه الناس فى الشوارع والحارات والأزقة.. راقبوا همهمات الغلابة فى القرى والنجوع.. لتدركوا جيدًا، أن توزيع «أوراك الفراخ» فى الشوادر لا يكفى، وأن صدق النوايا لن يجدى.. واسألوا أنفسكم: «من يتحركون الآن لحشد الناس هل كان بوسعهم أن يفعلوا ذلك قبل عام أو أقل؟!». بالطبع لا يطالب أحد بنتائج سريعة أو نهضة اقتصادية فى مائة يوم «كما كان يردد الإخوان»، فنحن نعرف قبل غيرنا أن مشوارنا طويل وأن التحديات كبيرة، لكن المطلوب هو أن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح ونبدأ.. بعيدًا عن سيادة منطق الجباية ورفع الدعم والتضييق على محدودى الدخل لسداد فواتير القروض، ولن يكون ذلك إلا بتغيير الفكر والاستراتيجية والقواعد الاقتصادية الحاكمة التى توارثتها الحكومات السابقة وفرضتها مجموعات المصالح والفساد، فزادت الأثرياء ثراء والفقراء فقرًا.