بدأت الإرهاصات الأولي لعملية حراك سياسي من نوع جديد راح يتخذ طابعا ديناميكيا حين تشكلت في يوليو عام 2004 'حركة مصرية من أجل التغيير' عرفت جماهيريا باسم 'كفاية'. وكان إقدامها علي رفع شعار 'لا للتمديد..لا للتوريث'، ونزولها إلي الشارع للتعبير عن رفضها لسياسات الحزب الحاكم بمثابة حجر كبير ألقي في بحيرة حياة سياسية راكدة سرعان ما دب فيها النشاط فجأة.. ولم يمض وقت طويل حتي ظهرت إلي جانبها حركات احتجاجية مختلفة الأشكال والألوان راحت تستخدم أساليب ووسائل شديدة التنوع والتباين. ولا جدال في أن نزول الدكتور عزيز صدقي، رئيس وزراء مصر الأسبق، علي رأس مجموعة كبيرة من وزراء سابقين وبرلمانيين وقضاة وأساتذة جامعات وموظفين كبار إلي الساحة أضفي زخما جديدا وشكل دليلا لا تخطئه العين علي أن الحياة السياسية في مصر تمر بمرحلة انتقالية وبدأت تشهد حالة حراك من نوع غير مسبوق. ورغم لجوء النظام الحاكم إلي أساليب عنيفة لقمع الحركة الاحتجاجية الوليدة، فإنه لم يكن بوسعه تجاوز سقف معين بسبب ظروف وأوضاع دولية مستجدة، خصوصا عقب تبني الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن سياسة شرق أوسطية جديدة ترتكز في جانبها المعلن علي الأقل علي تشجيع التحول الديمقراطي في هذه المنطقة من العالم. ويبدو أن هذا العامل الخارجي لعب الدور الأكثر حسما في إقناع الحزب الحاكم في مصر بضرورة العمل علي احتواء حالة الحراك السياسي المتنامية بأساليب ووسائل أخري أقل عنفا، وهو ما يفسر إقدام الرئيس مبارك علي سلسلة من الإجراءات وصفت في حينها ب'الإصلاحية'. ففي عام 2005 اقترح الرئيس تعديل المادة 76 من الدستور ليصبح رئيس الجمهورية بالانتخاب، بدلا من الاستفتاء علي شخص وحيد يرشحه مجلس الشعب. وهكذا جرت، ولأول مرة في تاريخ مصر، انتخابات رئاسية تنافس فيها شكلا عدة مرشحين!. كما جرت في العام نفسه انتخابات تشريعية سادها جو أكبر من الحرية فازت فيها جماعة الإخوان المسلمين ولأول مرة أيضا بما يقرب من خمس مقاعد مجلس الشعب. ومع ذلك بوسع البعض أن يقول إن حالة الحراك السياسي هذه لم تتمكن، في المحصلة النهائية، من إحداث تغيير جوهري في بنية النظام في اتجاه دفعه نحو تحول ديمقراطي حقيقي. فقد تمكن الرئيس مبارك من الاحتفاظ بمقعده الرئاسي لفترة ولاية خامسة مدتها ست سنوات، كما تمكن الحزب الحاكم من الاحتفاظ بأغلبية ساحقة تمكنه من الهيمنة علي السلطة التشريعية وتمرير أي قانون يريد، وهكذا أصبح الطريق مفتوحا لإجراء تعديلات دستورية واسعة النطاق عام 2007 شملت 34 مادة، بما فيها إعادة تعديل المادة 76 للمرة ثانية في أقل من عامين، مكنته من إعادة إحكام قبضته علي مجريات الأمور.. وهكذا بدا الحزب الوطني وكأنه كسب الجولة في معركة الحراك السياسي. **** غير أن تفجر الحراك السياسي من جديد بعد أربع سنوات فقط، وقبل عام كامل من الانتخابات التشريعية وعامين من الانتخابات الرئاسية، يشير بما لا يدع أي مجال للشك إلي أن الحزب الحاكم لم يكسب الحرب بعد وأن أمامه جولات ومعارك أخري كثيرة قد لا يخرج منها منتصرا بالضرورة. ما يلفت الانتباه هنا أن أسباب ودوافع تفجر الحراك الأول ليست فقط هي ذات الأسباب والدوافع التي أدت إلي تفجر الحراك الأول، وإنما أضيفت إليه أيضا أسباب أخري تعمق من حالة السخط الشعبي وتصعب كثيرا من قدرة الحزب الوطني علي احتوائه هذه المرة: فعلي الصعيد السياسي: لم يعد لدي الأغلبية الساحقة أية شكوك في وجود مشروع لتوريث السلطة في مصر من خلال العمل علي نقلها مباشرة من مبارك الأب إلي مبارك الابن. ورغم أن الإحساس بخطورة هذا المشروع علي المستقبل المصري لايزال محصورا في نطاق النخبة الفكرية والسياسية، إلا أن قطاعات عريضة من الشعب.. من الواضح أنها تتسع باستمرار.. بدأت تحس بأنها وقعت في شراك خديعة محكمة وجرت محاولة متعمدة لاستغفالها والضحك عليها ظلت تحاك داخل كواليس الحزب الوطني علي مدي سنوات. فقد ظل الرئيس مبارك ينفي لفترة طويلة وجود مشروع أو نية للتوريث وبعبارات بدت قاطعة من قبيل 'مصر ليست سوريا'، بل إن جمال مبارك نفسه لم يتردد ذات يوم من التصريح بأنه شخصيا 'لا يرغب ولا تتوافر لديه نية الترشح للمنصب الرئاسي'. أما الآن فقد تغير كل شيء وأصبح تصريحات الرجلين غامضة بل وجارحة لمشاعر المصريين أحيانا.. صحيح أن الرئيس الأب مازال يحاول أن ينفي وجود مشروع للتوريث لكن النغمة اختلفت كثيرا عن ذي قبل، وبدأ استخدام عبارات من نوع: 'لم أتشاور مع جمال في هذا الأمر'!. أما الرئيس الابن فقد بدا أمام سيل الأسئلة التي انهالت عليه في المؤتمر الصحفي الذي عقده مؤخرا في ختام المؤتمر السنوي للحزب الحاكم، غير قادر حتي علي مجرد إعادة نفي وجود نية أو رغبة لديه للترشح، ناهيك عن الافصاح عن اسم مرشح الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بدعوي أن الوقت مازال مبكرا!. ومع ذلك فإن ما تضمنه خطاب الرئيس الأب من إشارات واضحة لجيل الشباب في الحزب الحاكم ومن إشادة بدوره في قيادة الإصلاح من شأنه تبديد أي شكوك حول وجود مشروع لتوريث السلطة. ولأن هذا المشروع يقابل في تقديرنا برفض واضح من كل الدوائر خارج الحزب الحاكم فإنه يعتبر من بين أهم أسباب انطلاق موجة الحراك الراهنة. وعلي الصعيد الاقتصادي الاجتماعي: استمرت حالة التدهور العام في أداء النظام في جميع المجالات طوال السنوات الأربع الماضية، وتعمق الإحساس لدي الناس بأن الحزب الحاكم هو فعلا حزب رجال الأعمال، وأن سياساته منحازة بالكامل لصالح الغنياء علي حساب الفقراء، وأن زواج المال بالسلطة تسبب ليس فقط في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل لم تعرفه مصر من قبل في أي عصر من العصور، ولكن أيضا في شيوع أنواع ودرجات غير مسبوقة من الفساد. وقد كثرت في تلك الفترة الحوادث الدالة علي شيوع الإهمال والفساد، وعلي خطورة ما قد يترتب علي زواج السلطة والمال من أضرار لأرواح وممتلكات المصريين. غير أن حوادث بعينها كانت كاشفة أكثر من غيرها لما ينطوي عليه هذا الأمر من خطورة. فالملابسات الخاصة بحادث العبارة، من ناحية، وحادث مقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم، من ناحية أخري، ولّدا قناعة تامة لدي الرأي العام المصري بأن الحزب الحاكم بات غير قابل للإصلاح. فقد تبين أن بوسع صاحب عبارة متهالكة تتسبب في قتل أكثر من ألف مواطن أن يهرب خارج البلاد بسبب علاقات خاصة تربطه بشخصيات نافذة في الحزب والدولة. كما تبين أن بوسع واحد من كبار قادة الحزب الوطني أن يحرض علي قتل مطربة هربت منه بعد أن أنفق عليها ملايين الدولارات، ولولا وقوع الجريمة وارتكابها في بلد آخر لما تم إلقاء القبض عليه أو محاكمته. وعلي صعيد السياسة الخارجية: جرت خلال السنوات الأربع الماضية أحداث جسام، منها الحرب الإسرائيلية علي لبنان 2006، والحرب الإسرائيلية علي غزة في نهاية 2008، وأحداث دارفور، والتغلغل الإسرائيلي في دول حوض وادي النيل.. إلخ، بدت سياسة مصر الخارجية في غمارها ضعيفة، وبلا خيارات أخري سوي استمرار الدوران في الفلك الأمريكي الإسرائيلي، وبالتالي عاجزة عن حماية أمن مصر الوطني والذي بات يتعرض لأخطار جسيمة. في سياق كهذا من الطبيعي أن يشعر المصريون خصوصا مع اقتراب موعد انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة تبدو حاسمة في تقرير مصيرهم بالقلق من المستقبل، وأن يعبروا عن هذا القلق من خلال عملية حراك سياسي جديد تستهدف الخروج بمصر من نفق مظلم دخلت فيه. ولاجدال أن الانتخابات التشريعية تحتل أهمية خاصة هذه المرة لأنها قد تفتح ثغرة في جدار الحصار المفروض علي نزول مرشحين مستقلين حلبة الانتخابات الرئاسية. أما الانتخابات الرئاسية فستظل في النهاية هي الأكثر أهمية وحسما، بالنظر إلي حجم الصلاحيات والسلطات الضخمة لرئيس الدولة والتي تجعله محور النظام السياسي كله والشخصية المهيمنة فيه. ولأن لدي الشعب المصري قناعة تامة بأن مرشح الحزب الوطني في الانتخابات الرئاسية القادمة سيكون هو الرئيس الفعلي لمصر إذا استمرت الأوضاع كما هي عليه وفشلت حالة الحراك السياسي التي بدأت منذ أسابيع في حلحلة الأوضاع وفتح أفق التغيير، فمن الطبيعي أن يتابع كثيرون سلوك الحزب الحاكم في المرحلة المقبلة بكثير من الريبة والتوجس. فالحزب الوطني يبدو مصمما علي خوض انتخابات تشريعية لا تتوافر لها أي ضمانات للنزاهة، خصوصا في ظل تعديلات دستورية تفرض إجراءها في يوم واحد بعد أن كانت تجري علي مراحل ثلاث وبالتالي لا تتيح فرصة لإشراف قضائي محكم عليها، وهو ما قد يمكن الحزب الوطني أن يسيطر مرة أخري علي الأغلبية الساحقة من المقاعد، حتي ولو بطريق التزوير، ويجعله في وضع يتيح له التحكم في كل ما يتعلق بنزول مرشحين مستقلين إلي حلبة الانتخابات الرئاسية. علي صعيد آخر، تشير جميع الدلائل إلي أن الحزب الوطني يرغب في ترشيح مبارك الابن لمنصب الرئاسة في الانتخابات القادمة، ومع ذلك فليس من المستبعد كليا أن يقرر الرئيس الأب إعادة ترشيح نفسه لفترة ولاية سادسة إذا ما وجد أن الظروف ليست ملائمة للإقدام علي خطوة من هذا النوع لأي سبب من الأسباب. وعلي الرغم من أن الخيار الثاني هو الأسوأ.. إلا أن كليهما سيئ في الواقع. فالتجديد للرئيس الأب معناه أن مصر سيحكمها نفس الرجل الذي حكمها لمدة ثلاثين عاما قد تمتد إلي ست وثلاثين عاما سيكون عمره قد وصل في نهايتها إلي مشارف التسعين، وهو أمر من شأنه أن يضعف، من ناحية أخري، هيبة الحكم. إما إفساح الطريق أمام شاب في منتصف الأربعينيات هو في الوقت نفسه ابن الرئيس السابق فيحمل معه مخاطر عديدة أكبر وأبعد مدي لأنه: 1 تربي في أجواء مختلفة عن تلك التي تربي فيها والده وتبدو بعيدة كل البعد عن نبض مصر العميقة. 2 شديد الارتباط أيديولوجيا ومصلحيا بمجموعة رجال الأعمال الجدد الذين تحوم حولهم شبهة فساد ذات رائحة نفاذة. 3 سيقود نظاما استبداديا لا يقيد فترات الرئاسة، وبالتالي سيغلق تماما باب التحول الديمقراطي في مصر لمدة أربعين سنة مقبلة. **** والسؤال: هل سيتمكن الحزب الحاكم من إجهاض حالة الحراك السياسي الراهنة مثلما نجح في إجهاض سابقتها؟ الإجابة قد تبدو قاطعة بنعم إذا ما تم الاحتكام إلي نغمة الخطاب المستخدم من جانب قادة الحزب الحاكم في مؤتمره الأخير، والتي تعكس ثقة بالنفس تكاد تصل إلي حد الغرور. ومن الواضح أن الحزب الحاكم يبني هذه الثقة الزائدة عن الحد علي ثلاث حقائق، الأولي: تمتعه بقدرات ذاتية كبيرة تسمح له بتسخير جميع إمكانيات الدولة لخدمة مخططاته، والثانية: ضعف القوي المناوئة أو المعارضة وتشرذمها، والثالثة: عدم رغبة الدول الغربية بصفة عامة والإدارة الأمريكيةالجديدة بصفة خاصة في ممارسة اي نوع من الضغوط علي دولة تدور في فلكها من أجل إحداث تحول ديمقراطي غير مضمون العواقب. قد لا يكون بمقدور أحد أن ينكر أن بوسع الحزب الوطني تسخير إمكانات الدولة المصرية لصالحه، وأن قوي المعارضة في مصر ضعيفة ومفتتة، وأنه من غير المحتمل أن تمارس الولاياتالمتحدة ضغوطا علي الحزب الحاكم لفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي. ومع ذلك فإن الاعتقاد بأن الأمور يمكن أن تستمر في السير علي نفس النهج الروتيني المعتاد والمجرب علي مدي سنوات وعقود طويلة، ينطوي ضمنا علي افتراض غير واقعي. فانتقال السلطة من الأب في نظام جمهوري لدولة بحجم مصر ليس حدثا عاديا ولا هو بالأمر الروتيني، خصوصا أن لدي الغالبية العظمي من الشعب المصري إحساسا متزايدا بأن عملية تلاعب لا يليق وعبث بالدستور لا يصح استمرت وتواصلت علي مدي عقد كامل في جو من الخديعة والتآمر، وبطريقة جدال في أنها تعكس استهانة بالغة بذكاء شعب اشتهر بأنه'يفهمها وهي طايرة'!. ولأن الشعب المصري فهمها حتي قبل أن تطير واستوعبها، فإنني أعتقد أنه لن يتركها تحلق. وأظن أن حديث هيكل إلي 'المصري اليوم'، وحديث عمرو موسي إلي 'الشروق'، وما أثاراه من جدل يشيران بطريقة أو بأخري إلي أن معارضة 'مشروع التوريث' مرشحة بطريقة جادة لتجاوز صفوف أوساط المعارضة التقليدية التي اعتدنا عليها حتي الآن. لذا لا أستبعد أن يكون الحراك السياسي واعدا هذه المرة وأن يحمل في طياته جنينا حقيقيا..أرفض أن أصدق أن ما يجري في مصر الآن مجرد أعراض حمل كاذب جديد وأتمني أن لا يكون كذلك