يذكرني السجال الدائر بغير انقطاع بين القوي السياسية المختلفة بعد الثورة، حول ما إذا كانت الانتخابات أولا أم الدستور الجديد أولا، بإحدي النوادر التي تروي عن جحا وحماره.. حين استبد به الجوع وهو في الطريق، فصادف أمامه كومتين: إحداهما من البرسيم، والأخري من القش. لم يستطع حسم أمره بأيهما يبدأ، هل يبدأ بالبرسيم ثم بالقش أم العكس؟ وظل الحمار مترددا حائرا حتي قضي من الجوع والعطش! والقصة قد تبدو مضحكة في عالم الحيوان، ولكنها في عالم الإنسان تعكس العواقب الوخيمة للخلاف الناشب في المجتمع بين الآراء المختلفة، بعد أن وافقت الأغلبية في الاستفتاء الدستوري علي الترتيب الذي أقره المجلس العسكري. أي الانتخابات أولا ثم الدستور. إذ يعد التراجع عنه تراجعا عن رأي الأغلبية، فضلا عن أنه يطيل أمد بقاء المجلس العسكري في السلطة لأجل غير محدد لتشكيل جمعية تأسيسية تتولي أسس وضع الدستور الجديد. وهو ما قد يستغرق عامين علي الأقل! يعزز وجهة النظر هذه أن الانتخابات أولا سوف تمكن الأطراف الفائزة 'القوي الإسلامية' من إدارة العملية لصياغة دستور وفقا لمصالحها الضيقة. ومن ثم فالأفضل تجنبا لذلك أن نسير علي النهج التونسي أي الدستور أولا، لكي نضع قواعد المؤسسات الديمقراطية ثم تجري بمقتضاها الانتخابات التشريعية والرياسية! يعضد الاتجاه الأخير عدد كبير من المنظمات الحقوقية والشخصيات العامة 'والوطنية للتغيير'. ويضع هذا الاتجاه في اعتباره أن هذا المسار يتناقض مع المسار الذي يحبذه المجلس العسكري. ومعني ذلك أن يتراجع أحد الجانبين عن موقفه. أي أن يعيد المجلس العسكري النظر في ترتيبات المرحلة الانتقالية التي بدا مصمما عليها حتي الآن! والسؤال هو: ما الذي يمكن عمله إذا أصر المجلس العسكري علي التخلي عن سلطاته لحكومة مدنية وتم إجراء الانتخابات في سبتمبر؟ عامل الوقت هنا لا يمكن تجاهله. فخلال شهرين أو ثلاثة يفترض أن تكون سلسلة من الإجراءات التنفيذية والقوانين اللازمة لإجراء الانتخابات قد اتخذت. واستعدت الأحزاب والمرشحون لخوضها، وجري رسم الدوائر وحسمت القضايا التي لم تحسم مثل الانتخابات بالقائمة أو بالفردي ونسبة العمال والفلاحين وكوتة المرأة، وغير ذلك من المسائل التي انعقدت الحوارات حولها أخيرا. هنا يصح أن تأتي الفكرة التي طرحها الدكتور محمد البرادعي، بمثابة حل توفيقي للسجال الدائر: الانتخابات أولا أم الدستور؟ وذلك حتي لا نظل ندور في حلقات مفرغة، بينما يمضي الوقت وتتراكم المشكلات ويزداد العبء علي السلطة العسكرية في حل قضايا مدنية.. بينما تتوالي المليونيات في ميدان التحرير ولا تفضي إلي نتيجة! وتتلخص الفكرة وهي ليست جديدة في طرح وثيقة دستورية تحمل 'مبادئ قيام الدولة المصرية وحقوق المواطن المصري الأصيلة' استنادا إلي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وطبقا لهذه الوثيقة، فإن لكل مواطن الحق في حرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي وغير ذلك من الحقوق. وأن تكون محاكمته أمام قاضيه الطبيعي ولا يتعرض للتعذيب أو انتهاك حقوقه. وهذه الوثيقة التي تضمن حماية المصريين أيا كان شكل الدولة مدنية أو برلمانية أو رياسية ثابتة لا يجوز تعديلها أو المساس بها. بينما يمكن تعديل الدستور والقانون! ومثل هذه الوثيقة لو تم التوافق عليها يمكن طرحها للشعب لإقرارها كإعلان دستوري، تجري الانتخابات علي هديها تشريعية ورياسية. وتتاح الفرصة في هدوء لصياغة دستور دائم جديد في أجواء أقل توترا تسد الفجوة بين الفريقين: الداعين للانتخابات أولا، والداعين للدستور أولا. لابد أن نعترف بأن الهدف من كل دوائر النقاش والمقترحات المطروحة حول هذا الموضوع، هو إزاحة الغموض عن الموقف الراهن، واختصار الطريق لعودة الأوضاع الطبيعية، التي تسمح بعودة العسكريين إلي ثكناتهم وتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة، تخضع للحساب والمساءلة طبقا لقواعد الديمقراطية. تعيد عجلة البناء والإنتاج.. فكلما طالت فترة الجدل واحتدم النقاش، كلما اهتزت الثقة في المستقبل وتعددت الثغرات والهفوات التي تنفذ منها عناصر الثورة المضادة!