شاعت منذ فترة ظاهرة «الندوات النقدية» و«حفلات التوقيع » التى تنظمها الجمعيات والمراكز الثقافية ودور النشر لمناقشة الإبداعات الصادرة حديثًا, كما أصبحت محور اهتمام منظمى معرض الكتاب ومؤتمرات الثقافة الجماهيرية الإقليمية الذين يحاولون بها إلقاء الضوء على الكتب الجديدة وإبداعات أهل الإقليم. ورغم أهمية هذا النوع من الندوات فى تعريف الجمهور بالجديد فى مجالات الرواية والقصة والشعر, لكن الاعتماد عليها وحدها يؤدى إلى خلل خطير فى الحياة الثقافية.. فغالبًا ما تطلق فى مثل هذه الندوات مجموعة من الأحكام النقدية المتسرعة غير الدقيقة مما يؤدى إلى حدوث خلط ثقافى كبير ويخرجها عن هدفها الأساسى.. فتتحول تدريجيا إلى احتفاليات نقدية لا تقدم تقويمًا حقيقيًا للإبداع، خصوصًا أن أغلبها ينظمه الكتاب, ويدعون إليها أصدقاءهم ومحبيهم فتتحول الندوة إلى مجاملات لا تهدف إلا لتكريم وتدشين الكاتب, لدرجة أن البعض يتحدث فى مثل هذه الندوات رغم عدم قراءة العمل موضوع الندوة فضلًا عن دعوة كاميرات التليفزيون الذى يبحث مخرجوه ومعدوه عما يسد فراغ الشاشة الصغيرة, فيتحول الأمر كله إلى دعاية إعلامية فجة, ويصبح أنصاف المبدعين من «الشطار» فى العلاقات العامة إلى «نجوم» فى وقت تتقلص فيه مساحات النقد الجاد والعلمى فى الصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية, فيسود النقد الشفاهى الذى عادة ما يذهب أدراج الرياح، ولقد حدثت معى طرفة فى أثناء رحلة الذهاب الى إحدى محافظات مصر لمناقشة رواية لروائى صعيدى وكان معى أحد أشهر النقاد الشفاهيين ومحترفى ندوات الأقاليم يقضى معظم وقته متنقلًا من الدلتا إلى الصعيد ليناقش أعمال خلق الله من المبدعين وسألنى فجأة: «هية مجموعة فلان اسمها أيه؟ فابتسمت وقلت له: «دى رواية يا دكتور» ابتسم وقال: «العفريت بقى بيكتب روايات؟! معاك الكتاب؟» أعطيته الرواية وأنا أكاد أنفجر من الغيظ. وفى الندوة تحدث الرجل فى كل شىء وعن كل شىء إلا الرواية، والغريب أن الأديب كان ممتنًا وسعيدًا وشكر الناقد الأكاديمى على تحمله مشقة السفر من أجل الاحتفال بروايته وشكرنى بفتور لأننى ببساطة نبهت إلى أخطائه اللغوية والأسلوبية التى عزاها فى تعقيبه إلى المطبعة المسكينة.. الظاهرة مقلقة, وتحتاج إلى وقفة حازمة, ولا بد أن يتدخل النقاد الحقيقيون لتقويم المشهد النقدى المختل.. ولا بد أيضًا أن تفرد الصحف فى صفحاتها الإبداعية مساحة للنقد الحقيقى، خصوصًا أن الكثير من الصحف والمجلات أصبحت تخصص أخيرًا مساحات كبيرة لإبداع الأدباء، وأعتقد أن مثل هذه الكتابات ستلقى الضوء على المبدعين الحقيقيين الذين لا يتقنون فن «العلاقات العامة» فتظهر الإبداعات المطمورة ويتألق المبدعون الحقيقيون فى مواجهة الشطار من المدعين، فغياب النقد والنقاد الحقيقيين هو السبب الرئيس فى تعاظم «النقد الشفوى» الذى حوَّل حياتنا الثقافية إلى مرتع لأنصاف المواهب من المدعين.