لا أظن أنني وكثيرين غيري قد تعاطفوا مع مبارك ونظامه إلا في الأشهر الأولي من حكمه فحسب، فقد تولي الحكم في ظروف عصيبة، قامت فيها الجماعات الإسلامية باغتيال السادات، والسيطرة علي أسيوط والتهديد بدفع البلاد نحو هاوية سحيقة من الفوضي، فضلاً عن حالة من الغضب الشعبي الجارف بعد اعتقال السادات جميع رموز المعارضة، ولقد نجح مبارك دون شك في تجاوز تلك المحنة بهدوء وحزم، لكن سرعان ما ظهرت ميوله الاستبدادية، واحتقاره الناس وابتعاده عنهم، ثم استعانته بأنماط منحطة من الساسة ورجال الأعمال، ودفعه لولديه وزوجته للإثراء المشبوه بكل وسيلة وآخر الأثافي سعيه لتوريث البلاد والعباد لابنه، وغير هذا كثير. ورغم هذا كله فإنني لست مع الذين يدعون للانتقام من مبارك، أو المطالبة برأسه وإعدامه أو التشفي فيه، لأسباب موضوعية وسياسية، فالتشفي والرغبة في الانتقام ظاهرة بربرية وحشية لا تبني دولا ولا تنير الطريق أمام مستقبل ولا تثبت حقا ولا تمهد الأرض أمام سيادة قانون منصف وعادل، فضلاً عن أنها قد تدفع المعذبين في الأرض والمظلومين إلي الارتياح والخدر بعد أن هدأ طائر الثأر والقصاص الذي يعربد داخل نفوسهم، وتستمر الأمور في جريانها المعتاد دون أن نتوقف. ونسأل بتعقل وروية: ما الذي حدث ولماذا وما السبيل إلي قطع الطريق أمام الشر والفساد والاستبداد وتدهور المؤسسات والتزوير والبلطجة والسرقة وغيرها من مفاسد أشعلت في نفوس الناس تلك الرغبة في التشفي والانتقام؟. وفي الوقت نفسه فإنني لست مع الذين يدعون إلي التسامح مع مبارك بدعاو منها أنه لم يكن ضالعا في كل ما ارتكب في عهده من حماقات وجرائم، أو أنه كان ضعيفاً أمام زوجته وولده فلم يستطع إيقاف قطار التوريث، أو أن المشكلة كانت في بطانة الإجرام والخراب التي أحاطت بالرجل من وزراء وساسة ورجال أعمال، وأنه أخيرا لم يكن يعلم بالكثير مما كان يجري في البلاد، والسؤال هنا: إذا كان كل هذا حقاً فمن المسؤول ومن يدفع الثمن؟. إن مبارك هو المسؤول الأول عن أن لأبنائنا وبناتنا، من شهداء الثورة السلمية المجيدة، دماً في رقابنا يطلب العدل والإنصاف، ولا أظننا نستطيع التفريط في هذا الدم، وفاءَّ لحقوق الشهداء من جهة وتدعيماً لكل القيم النبيلة وهي طريقنا للمستقبل من ناحية أخري، وأيضاً من المسؤول عن غياب الرجل عن بلده وناسه هذا الغياب الطويل؟. هناك في شرم الشيخ علي شاطئ البحر الأحمر تحت سمائه الصافية وأمام مياهه اللازوردية الزرقاء يلوك الهدوء والدعة وراحة البال والترف، بعيدا عن الناس، حيث لا تصك أذنيه صرخاتهم هنا وهم يقتلون بعضهم بعضا في سبيل الحصول علي أنبوبة بوتاجاز أو بضعة أرغفة من الخبز الرخيص، أو أنات المعذبين في زنازين حبيبه العادلي قبل أن يلقيهم زبانيته في الشارع جثثا هامدة، وإذا جاز للإنسان منا أن يضعف أمام مطالب أولاده الخاصة فهل يجوز ذلك للمسؤول وعلي حساب الوطن والمستقبل. ومن يصدق أن مبارك في عصر السموات المفتوحة لا يعرف أن مواطنيه ينحدرون إلي حافة التسول يوما بعد يوم، ومؤسسات بلاده تغرق مع العبارة الغارقة، وقصص فساد رجاله الذين اختارهم ينشدها الناس علي الربابة صباح مساء، ومن يصدق أن أحد مسؤوليه يمكنه أن يخفي عنه حقيقة يريد معرفتها وهم موقنون بأن النظم الاستبدادية تقوم علي تعدد أجهزة التجسس التي تعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وفي النهاية فإنني أعرف أن مبارك سيحاكم بتهم القتل والتربح والسرقة وغيرها، لكن ينبغي أن يكون ذلك أمام محكمة طبيعية وقاض طبيعي وقانون طبيعي يوفر له من العدل والإنصاف ما لم يسع هو لتوفيره لخصومه وضحاياه طوال عهده الطويل والبغيض. [email protected]