اعتبر الكاتب البريطاني ديفيد غاردنر الهجوم علي حزب العمال الكردستاني وفرْض حصار في جنوب شرق تركيا، بمثابة مغازلة سافرة من جانب أردوغان للقوميين. واستهل مقالا نشرته الفاينانشيال تايمز - بعنوان 'أردوغان يعاود السعي إلي حكم الفرد'- بالتأكيد علي أن تركيا سقطت رهينة لطموح رجل واحد هو الرئيس رجب طيب أردوغان الذي لم يسعه، بعد فشل حزبه العدالة والتنمية في الاحتفاظ بالأغلبية للمرة الرابعة في يونيو الماضي، إلا أن يختطف البلاد إلي انتخابات عامة جديدة. ورأي غاردنر أن نتيجة انتخابات يونيو كانت برلمانا معلقا، أما رسالتها فكانت أن غالبية الأتراك يرفضون بشكل واضح حُكْم الفرد، فمنذ صعوده إلي كرسي الرئاسة العام الماضي استحوذ أردوغان علي السلطة من البرلمان والحكومة ومؤسسات مثل القضاء، وكان هدفه المعلن متمثلا في تحصيل أغلبية مطلقة لصالح حزبه العدالة والتنمية من أجل إعادة صياغة الدستور، في سعي جامح منه إلي السلطة. ولا يبالي أردوغان بأن البلد الذي فعل الكثير للاستحواذ علي سلطاته يتعرض لهجمات علي كافة الجبهات: من الجنوب علي أيدي تنظيم داعش الذي شن الشهر الماضي هجمات داخل تركيا، فيما يشهد الجنوب الشرقي الكردي بتركيا تجدد اشتعال للقتال، كل ذلك وسط اقتصاد راكد وعملة تشهد قيمتها تراجعا في ظل حالة من الغموض الكثيف المخيم علي الأسواق الناشئة. ورأي غاردنر أن اردوغان، الذي يحكم كسلطان هوائيّ المزاج من قصره العثمانيّ الطراز البالغ حجمه أربعة أمثال حجم قصر فرساي، يبدو مُجسّدا للمقولة المنسوبة إلي لويس الخامس عشر 'أنا ومن بعدي الطوفان'. ويري العديد من المراقبين الأتراك وبعضهم من داخل أروقة حزب العدالة والتنمية أن هذا القائد ال'زئبقيّ' قرر إعادة الانتخابات فور ظهور نتائج انتخابات يونيو، ومن منطلق وصايته المزعومة، بدا أردوغان معتقدا أن أبناءه الأتراك اقترفوا خطأ لكن بإمكانهم تصحيحه، لا سيما بعد أن يكتشفوا سريعا أن مشكلات تركيا اليوم نشأت جراء فشلهم في التمسك بحكومة أحادية الحزب تحت رئيس قوي. وكان أردوغان قال في وقت سابق من الشهر الجاري أن السلطة قد هاجرت من نظام تركيا البرلماني إلي رئاسته، معلنا 'ثمة رئيس في البلد بسلطة حقيقية، وليست رمزية'. ويتصرف الرئيس في نطاق صلاحياته الدستورية إذ يدعو إلي إجراء انتخابات جديدة بعد فشل حزب العدالة والتنمية في مفاوضات تشكيل حكومة ائتلاف مع حزب المعارضة الرئيسي المتمثل في حزب الشعب الجمهوري، لكن هذه المفاوضات لم تأخذ فرصتها أبدا للنجاح، فبينما تحدث ممثلو حزب الشعب الجمهوري عن اقتسام السلطة وعمل إصلاحات وسيادة القانون، راوغ ممثلو حزب العدالة والتنمية للحيلولة دون اقتسام السلطة، أما بالنسبة لإردوغان فإن القضية وجودية. ولفت غاردنر إلي الطريقة التي تعاطي بها إردوغان مع مظاهرات 'منتزه غيزي' السلمية عام 2013 عندما صوّر الأمر علي أنه مؤامرة كبري للإطاحة به، وهو ما كان حقيقة بالفعل: حيث سعي إلي ذلك حلفاء إسلاميون سابقون من داخل مؤسسات الشرطة والقضاء والأمن.. لكن ما يخشاه أردوغان في حقيقة الأمر هو الخضوع للمساءلة، وهذا هو السبب وراء محاولاته نسْف سيادة القانون وتسريح أو تهميش رجال الشرطة والقضاء وتكميم أفواه المعارضة في ظل إقالة المئات من الصحفيين منذ تظاهرات 'منتزه جيزي' وملاحقة العشرات من المواطنين بدعوي تشويه صورته، لا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وعبْر الحدود مع سوريا، التي ظلت أنقرة تسمح حتي وقت قريب بمرور الجهاديين والمتطوعين والأسلحة إليها عبْرها، كان التركيز منصبّا علي الإطاحة بنظام بشار الأسد ووقف التمدد الكردي في الشمال. وقد أصيبت أمريكا وحلفاؤها بالإحباط من تقاعس أردوغان عن شن هجوم علي تنظيم داعش، وبالذات في المناطق التي يقاتل فيها عناصر التنظيم الأكراد. لكن من المفترض أن هذا الوضع تغيّر بعد أن شن تنظيم داعش هجوما علي مركز ثقافي كردي بمدينة 'سروج' الشهر الماضي ما أدي إلي مقتل 33 شخصا. بعدها شنت تركيا ثلاث غارات جوية فقط علي داعش في شمال سوريا مقابل مئات الغارات علي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، المتحالف مع ميليشيات أكراد سوريا. ثمة تخوف من أن يؤدي ظهور كيان كردي جديد في سوريا محاذ لحكومة إقليم كردستان ذاتية الحكم في شمال العراق إلي إزجاء الحديث عن حُكم ذاتي مشابه للأكراد في جنوب شرق تركيا. غير أن الهجوم علي حزب العمال الكردستاني وفرْض حصار في الجنوب الشرقي هو في الغالب من أجل الانتخابات فيما يعتبر مغازلة صريحة للناخبين من القوميين الأتراك. ما يرمي إليه أردوغان فوق أي شيء هو تشويه سُمعة خصومه في انتخابات يونيو وتصويرهم ك'انفصاليين ذئاب يرتدون فِراء حِملان'. ويسعي إردوغان إلي خفض نسبة الأصوات المؤيدة لحزب الشعوب الديمقراطي إلي ما دون ال 10 بالمئة ومن ثم تقليص عدد مقاعده في البرلمان لصالح حزب العدالة والتنمية. وفي ظل غياب أي استطلاعات للرأي تشير إلي نجاح الرئيس في تكتيكاته، يعاني الجهاز المناعي لتركي تدهورا مثيرا للقلق، فيما يقضي حزب العدالة والتنمية علي أي أثر للكياسة السياسية. وإذْ تتعرض للهجوم علي أيدي برابرة داعش الذين دخلوها من بعد المناوشات علي مشارفها، وفي ظل إعادة اشتعال الاضطراب الكردي، وفي ظل المعاناة من أنيميا اقتصادية - يبقي إردوغان هو أكبر مشكلات تركيا، وعبْر النظر إلي خطوته الأخيرة ربما يستطيع الأتراك اكتشاف مدي ضخامة هذه المشكلة.