تأتي الأيام، وتتوالي الأحداث، وتتغير الظروف، ويقف الجامع الأزهر الشريف- أقدم جامعة علي ظهر الأرض- شاهداً حياً علي إرساء قيم التسامح، والمساواة، ونبذ العنصرية والطائفية! فمن يقلب في صفحات تاريخه الطويل، لا يُفاجأ عندما يقرأ أن أقباط مصر لم يجدوا لهم من معينٍ عذبٍ سوي رحابه، فأقبلوا علي أروقته الشهيرة للنهل منها، وعلي شيوخه الأجلاء، للجلوس بين أيديهم للتعلم، ومعرفة الدين الخالص! فمن منا يستطيع أن ينسي جهود أبناء العسّال الأقباط اللغوية والثقافية؟! هذه الأسرة التي عاشت في القرنين السادس والسابع الهجريين، والتي درستْ في رحاب الأزهر الشريف، وتلقي أبناؤها تعاليم الإسلام، واللغة العربية، فانعكست تلك الثقافة الإسلامية في كتاباتهم. يقول الدكتور أحمد مختار عمر- أستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة- في كتابه 'تاريخ اللغة العربية في مصر': 'وأقرب مثال لذلك، كتاب الصفيّ العسّال المسمي 'المجموع الصفوي' الذي يتناول فقه المذهب الصفوي، وواضح في هذا الكتاب تأثر المؤلف بالفقه الإسلامي في تقسيم الكتاب إلي قسمين: عبادات، ومعاملات، وفي عناوين أبوابه، وحتي في تقريره للأحكام. وإليكم النص الذي يوضح هذه الفكرة، وهو عن آداب القاضي، فيقول الصفي العسال: 'ويساوي بين الخصمين في الدخول والجلوس، والإقبال عليهما، والإنصات إليهما، والمخاطبة لهما، والعدل في الحكم لهما أو عليهما.. '! ومن منا يستطيع أن ينسي الشيخ الرئيس ابن كاتب قيصر الأزهري، الذي ألَّف كتاباً في نحو اللغة القبطية سماه 'التبصرة' علي غرار مؤلفات النحو العربي! ومن منا يستطيع أن ينسي الوزير الأيوبي القبطي الأسعد بن مماتي المتوفي سنة 606ه، الذي تعلّم علي أيدي علماء الأزهر، فدرس علوم النحو والصرف، والأدب، واللغة، والفقه، والشريعة. ومن مؤلفاته المهمة كتاب'تلقين اليقين في الكلام علي حديث بُنِي الإسلام علي خمس'. ومن منا يستطيع أن ينسي الوجيه القليوبي القبطي، صاحب كتاب 'الكفاية في نحو اللغة القبطية' الذي حضر دروساً في الأزهر. وفي العصر الحديث، عندما كان الإمام محمد عبده يعطي دروسه في الرواق العباسي بالأزهر، كانت هناك طائفة من الشباب القبطي تقبل علي دروسه، معجبةً بآرائه وتسامحه! حتي إن الإمام محمد عبده أشاد بهم، وبعلو محصولهم العلمي! ومن منا يستطيع أن ينسي العالم المصري ميخائيل الصباغ '1774-1816م' الذي درَّس في المدرسة الوطنية للدراسات الشرقية بباريس، ويذكر محمود المقداد في كتابه 'تاريخ الدراسات العربية في فرنسا': 'أنه درس علي أساتذة مصر، وممن ذكرهم الشيخ يوسف الخراشي الأزهري! أي أنه تعلم علي أيدي علماء الأزهر'. ويحكي الدكتور حسين فوزي النجار كيف أن الطُّلاَّب المسيحيين أقدموا بشوق علي الدراسة في أروقة الأزهر، ويذكر أنه كانت هناك مدرسة بالزقازيق تُسَمَّي مدرسة عبد المسيح بك موسي للمرحلتين الابتدائية والثانوية، وكان ناظرها'عزيز أفندي' وهو ممَّن درسوا في الأزهر، وتخرج فيه، وكانت ثقافته أزهريةً في أساسها! ومن المعروف أن المستشرق الإنجليزي الكبير إدوارد وليم لاين '1801-1876م' زار مصر لأول مرة عام 1825م، ومكث بها ثلاث سنوات، وخلال تلك الفترة اعتنق الإسلام، وتسمَّي باسم'منصور أفندي'، وعاش بحي السيدة زينب، ودرس بالجامع الأزهر علي طائفةٍ من أساتذته علوم العربية والفقه والحديث والتفسير والتاريخ الإسلامي. وكان صديقاً مُقرَّباً للعلاَّمة حسن العطّار شيخ الأزهر وقتذاك، وكان يحضر مجالسه العلمية. ثم زار مصر للمرة الثانية، ومكث بها سبعة أعوام، حتي أتقن اللغة العربية، فترجم ألف ليلة وليلة إلي الإنجليزية، وأصدر قاموسه الشهير للعربية والإنجليزية، واعتمد فيه علي قاموس 'تاج العروس' للزبيدي، كما أنه وضع كتاباً عن مصر وأحوالها بعنوان'أحوال وعوائد المصريين المُحْدَثين' ترجم لنفسه فيه. ومن منا يستطيع أن ينسي الأزهري القبطي إسكندر نظير، الذي التحق بالأزهر، وتخرج فيه. والذي نشأ في رعاية أحد كبراء مدينة طهطا، الذي شجعه علي الاطلاع الأدبي حتي تكونت ملكته الشعرية، التي ظهرت في رثائه للإمام محمد عبده، الذي قال فيه: 'يا يوم قضي وجاور رمسه/ لا زلت يوماً بالأسي مذكورا/ كم عبرة أجريتها وحشاشة/ شذبتها أسفاً وهجت زفيرا/ ودت نفوس أن تكون فداءه/ مختارة لو تملك التخييرا'! ومن منا يستطيع أن ينسي الصحفي القبطي/ جندي إبراهيم شحاتة '1864- 1928م' صاحب جريدة الوطن، الذي تلقي دروسه في أحد الكتاتيب الإسلامية في مدينة جرجا، بصعيد مصر، كما درس في الأزهر الشريف، تحت اسم إبراهيم جندي، فتلقي علوم العربية والشريعة'. ومن منا يستطيع أن ينسي الأزهري القبطي/ تادرس بن وهبة الطهطاوي المصري'1860-1934م' الذي التحق بالأزهر، فحفظ القرآن الكريم، ودرس علوم الحديث والفقه واللغة. وعندما تقدم للامتحان النهائي بمدرسة الأقباط، كان يترأس الامتحان رفاعة الطهطاوي، الذي قالت عنه 'الوقائع المصرية': 'صار افتتاح الامتحان الذي مُيِّزَ فيه تادرس أفندي وهبي بين الأقران، وأُشيرَ إليه بالبنان. كان امتحان هذا التلميذ في اللغة العربية، والمنطق، والبيان، واللغة الفرنساوية، والإنجليزية، والهندسة، واللغة الطليانية، فأحسن في كل هذه الإجابة، وظهرت عليه إشارات النجابة'! ومن مؤلفاته: الخلاصة الذهبية في اللغة العربية، وعنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق، ورواية تليماك. وامتاز أسلوبه بكثرة المحسنات اللفظية، ولا سيما الاقتباس من القرآن الكريم. ومن منا يستطيع أن ينسي السياسي الوطني القبطي/ مكرم عبيد، الذي درس في الأزهر عامين في مقتبل حياته، فحفظ القرآن، وتلقي علوم الشريعة الإسلامية، حتي إنه كان يكسب معظم قضاياه أمام القضاء، لاعتماده علي محفوظه من الكتاب العزيز! وهناك القبطي الأزهري/ فرنسيس العتر المولود عام 1872م بدرب الجنينة بحي الأزبكية المصري، بمنزل والده القمص بطرس العتر. بدأ فرنسيس تلقي مبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب الإسلامية، ثم درس اللاهوت والفلسفة، وأجاد اللغة القبطية، إلي جانب اللاتينية، والفرنسية، ثم تردد علي حلقات الشيخ محمد عبده، التي كان يعقدها مساء كل يوم بالجامع الأزهر في الرواق العباسي، منذ عام 1902م حتي وفاة الإمام محمد عبده في عام 1905م. ومن منا يستطيع أن ينسي القمص/ مرقص سرجيوس- خطيب ثورة 1919م، والذي قادها من فوق منبر الجامع الأزهر، بخطبه الحماسية ضد الاحتلال البريطاني! وكيف كانت ثقافته الإسلامية تساوي ثقافته المسيحية، وكان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم! ومن منا يستطيع أن ينسي أن المستشرق الفرنسي/ لويس ماسينيون درس في بداية العقد الثاني من القرن العشرين في الأزهر الشريف، فأخذ علوم العقل والنقل عن علمائه الكبار. والعجيب أنه كان يلبس اللباس الأزهري، ويُفاخِر به طوال مدة دراسته!وعندما أتمَّ دراسته بنجاحٍ، أثني عليه شيوخه الأزهريون، وأكرموه! ومن جملة ما حكاه العلامة/ حسين مجيب المصري في كتابه المخطوط 'تذكار الصبا': أنه تلقي علومه الأولي في مدرسة السعيدية بالجيزة علي يد أستاذ قبطي، اسمه بنيامين، درس في الأزهر! وإن ننس، فلا ننسي الحكاية التي رواها القمص/ بولس باسيلي في كتابه 'الوحدة الوطنية في مصر': عن صداقته المتينة بالشيخ أحمد حسن الباقوري في جمعية الإخاء الديني، وتتلمذه علي يديه إسلامياً وفكرياً! وبعد كل ما تقدم من تاريخ وحقائق تشير إلي رحابة الأزهر الشريف وسماحته، وانفتاحه علي الجميع في الماضي، فلا بد من طرح هذا السؤال المهم: تُري متي يعود هذا الجو العلمي الصحي، الذي نري فيه الأزهر الشريف واحة وارفة لجميع الناس، بغض النظر عن اللون، والمعتقد، واللغة، والعصبية البغيضة؟! ومتي يفتح الازهر مصراعيه، لأبناء الأمة المصرية، علي اختلاف مشاربهم، وأديانهم، ومعتقداتهم؟! إنَّ أمسَ الانفتاح، والتسامح، لِتغيير واقع اليوم البئيس.. لقريبٌ قريب!