ثمة مواجهات رمضانية لابد منها تبدأ مع بداية الشهر الفضيل وتتمثل بعادات وطقوس علينا أن نستعد لها فالكثير من العادات التي يوحّدها شهر الصيام تكون حاضرة وبجاهزية عالية لدي الجميع بدءاً من المسلسلات التلفزيونية التي تعاني من الازدحام الشديد في قاعة الانتظار خلال شهر رمضان، مروراً بالذين لا يعملون لا في رمضان ولا في غيره ذلك يجعلون من شهر الصيام حجة لضيق خلقهم وفرصة لتقاعسهم. إن دعوة القرآن الكريم في شهر القرآن وفي غيره من الشهور إلي وحدة المجتمع الصائم لا يجدر أن نقتصر في فهمها علي أنها مجرد دعوة نظرية إلي السلام بين البشر.. لأن السلام ليس منفصلاً عن غايات القرآن السامية التي تمكن المجتمع الإنساني من تحقيق معني وجوده علي هذه الأرض المذعورة والتي ما انفكت علي لسان أبنائها الأحرار تنشد وحدتها الضائعة بشرط السلام المشروط قرآنياً بسلام الإنسان مع ربه وسلام الإنسان مع نفسه وسلام الإنسان مع أخيه الإنسان، وهو سلام ينبض في قلب المؤمن كما هي نبضة الإيمان في صومه وصلاته وفق رؤية تربوية تري في اختبارات الصيام وسيلة وميداناً لاجتراح معجزة الوحدة الإنسانية الكبري بوضع فاصلة جوهرية بين مفهوم الخصومة ومفهوم العداوة. للأسف الشديد، فقد صارت لرمضان صورتان عند النسبة الكاسحة من العوام، صورة في النهار، حيث الامتناع عن الأكل والشرب وخلافه من الخدمات التي تقدم إلي الجسد، وصورة في الليل حيث يصبح الجسم سيداً، بخلاياه وغرائزه وأشواقه، وتتواري الروح في ركن من النسيان والإهمال. وهذا الفصام المزمن، الذي طالما رصدته أقلام وعدسات في أقصي الشرق والغرب، أضرّ بصورة المسلمين إلي حد كبير، وجعلهم عبئاً علي دينهم الذي ينطوي علي قيم روحية سامية من دون أن يهمل الجسد.يقول عزوجل ''قل من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق''. ويجعل للآخرة الأولوية من دون أن يغفل الدنيا، ويقول أعز من قائل ''وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ''. لكننا جُرنا علي هذا التوازن، وخرجنا عن تلك الوسطية، فأعطينا للأدني أولوية علي الأعلي، ودُسنا بأقدامنا المعاني الكبري التي من أجلها شرع الله عزوجل الصوم. رمضان في حياتنا المعاصرة أصبح مبرمجاً لغير علة تشريعه، ولو طاف أحدنا بجولة في محركات البحث الإلكترونية لوجد الاختلاف شاسعاً بين علل الصيام في الأديان والحضارات المختلفة، وعما نقوم به قبل أيام من دخول هذا الشهر الذي أصبح مبرمجاً علي سلوكيات منحرفة عن أصله كعبادة، فيدخل تجار الأغذية المشهد المسرحي ليكونوا نجومه، وينقلب الشهر إلي 'مهرجان' كما تحب الأسواق الكبري تسميته أيضاً. وكل التحركات التي تسبقه تهدف إلي كيفية الحصول علي الطعام مهما تكن الأثمان، وهذا جزء من البرمجة العقلية للصائم، حيث يرتبط الشهر بالخوف من الجوع في نهاره، وفي هذا دخلت البيوت الخاصة علي الخط فأصبحت مصنعاً لبيع الأطعمة! من جانب آخر، تعاد الفتاوي الدينية المرتبطة بالصيام كل سنة وكأنها معدة مسبقاً، وصارت فتاوي الترخيص بالإفطار تتصدر الصحف كما حدث في العام الماضي في فتوي جواز إفطار من انقطعت عنهم الكهرباء! فالمناسبات الاجتماعية هي الأخري تطغي وبشكل يومي علي حياة الناس في رمضان، ولا تخلو بالطبع من البذخ في صرف الطعام أو تغيير أثاث المنزل أو إعادة ترميم أجزاء منه، وكذا الاستغراق في السهر والتجوال المتواصل في الشوارع من دون طائل إلي ساعات متأخرة من الليل تؤدي أحياناً إلي إجازة مرضية، أو تغيب عن العمل. رمضان أصبح شهراً استعراضياً بمعني الكلمة، في إعداد الطعام وصور الاستعداد للعبادات والمراءاة بها، وضعف الحديث عن فضل العمل وقضاء حاجة الناس ومطالبهم في أجهزة الدولة الخدمية، بل إن البعض يتعمد إظهار أثر الصيام علي وجهه شكلاً أو سلوكاً كالتمارض والكسل والعصبية. وفي ذلك يروي عن المسيح عليه السلام أنه قال: ''إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه من دهنه حتي ينظر الناظر إليه فيري أنه ليس بصائم''. ليس لرمضان علاقة بالطعام إلا بالجود فيه لمحتاج كما كان يفعل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فهي عبادة روحية عرفها الإنسان منذ غابر العصور وجاءت الأديان لتطورها وتخلصها للخالق، فهدفها التقليل من الأكل والكلام والاختلاء مع النفس.. فأين نحن اليوم من هذه الأهداف؟! والسؤال الذي يتبادر للذهن في الأيام المباركة: تري عن ماذا يجب أن نصوم إضافة للطعام؟ هل نصوم عن الكذب.. عن الغش.. عن التضليل.. عن ظلم الآخرين..؟ فالصيام نظام متكامل بذاته.. فلماذا لا يكون هذا النظام مستمراً في حياتنا من حيث تنظيم الوقت والطعام والعمل والإخلاص في العمل؟ لماذا يقتصر الاجتهاد في كل شيء علي شهر رمضان؟ أما تسمع قول 'مريم بنت عمران': 'إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً' 'مريم:26'. يعني صمتاً! فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تشادوا، ولا تشاتموا، ولا تنابزوا، ولا تجادلوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله، وعن الصلاة، والزموا الصمت، والسكوت، والحلم، والصبر، والصدق، ومجانبة أهل الشر، واجتنبوا قول الزور والكذب، والإغراء، والخصومة، وظن السوء، والغيبة، والنميمة، وكونوا مشرفين علي الآخرة لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة، والوقار، والخشوع. إن الصيام، يولي اهتماماً كبيراً لطهارة النفس واستقامة السلوك، داخل الواقع الاجتماعي، الذي يحرص علي وشائج القربي الإنسانية بين الناس، ويصون مكونات الوحدة من داخل الممارسة، لنخلص إلي العلاقة الجدلية بين القرآن، والصوم، التي تستند إلي معيار واحد، هو طهارة النفس. ولسنا بحاجة في هذا المجال لفهم عوامل الهزيمة، التي مني بها المسلمون عبر حروب طويلة إذا تلمسنا المسارب التي دخل منها الغزاة إلي نفوسهم وعقولهم، قبل أن تتاح لهم السيطرة علي الأرض، ومنابع الثروة والقوة. وبذلك نعي أن الذين يصومون ويصلّون بمعزل عن هذا الوعي، فإنهم يفرغون العبادة والطاعة من مضمونها العميق، ومثلهم في ذلك مثل من يطوي درباً يمر بدائرة فارغة، يسير ويسير ثم يرجع لاهثاً، من تعب المسير، إلي نقطة البداية. شهر رمضان هو مدرسة بحد ذاته للصبر والانضباط وتنظيم الوقت.. وهناك من هو أجدر وأكثر كفاءة وخبرة وعلماً للحديث عن رمضان وفوائد الصيام، لكن ما نريده هنا مع بداية الشهر الفضيل أن يكون إضافة إلي كل ما تقدم محطة للتأمل ومناسبة للإجابة علي السؤال التالي: لماذا لا يكون سلوك رمضان مستمراً في حياتنا؟ لماذا لا نحاول أن نتحمل بعض الممارسات أو الكلمات بدون ردة فعل كما نفعل في رمضان عندما نقول اللهم أني صائم.. لماذا لا نحاول أن نستمد من شهر الصيام المؤونة الكاملة من سلوكه وطقوسه وأخلاقياته العالية لكل الأشهر..؟ ولماذا لا يكون صيامنا عن كل ما هو مؤذي في كل الأشهر ما عدا الطعام؟ فليس كل خصم هو العدو وليس كل عدو هو الذي يعتدي عليك من خارج ذاتك، فلربما كان العدو في داخلك، هو نفسك الأمارة بالسوء أو نفسك المنغلقة علي هواها فلا تري في التنوع والاختلاف بين الناس إلا مصدراً من مصادر التنازع والاحتراب.. لذلك كانت عبادة الصوم دافعاً إلي وعي تجلياته في الفكر والاجتماع في مشهد يبني السلام علي أفق مفتوح للوحدة المخضوضرة بغذائها الروحي والثقافي لنقل المجتمعات البشرية من واقع الفتن والانقسام والحروب إلي واقع الوحدة التي لن يكتب لها الاستمرار والبقاء إلا إذا كانت محصنة بوحدة التقوي وتقوي السلام.. وما من شك في أن هذه التقوي التي توجت آيات الصوم في فلسفته ورسالته هي الضامن الوحيد لجمال الوحدة وكمالها. لذلك كله فإن عقيدة الإيمان بالتوحيد الذي يتسع للجميع هي نقطة الارتكاز لتحقيق قيم الوحدة والعدالة والمساواة بين الناس كل الناس ولذلك يصبح الاستناد إلي العوامل الروحية والثقافية هو السلاح الأمضي لمكافحة الكراهية والتطرف باقتلاع الشر من صدر عدوك باقتلاعه من صدرك ليستقبل العالم فجر الحضارة الواحدة وعلي ضفافها تتنوع الثقافات المفتوحة علي بعضها بالحوار والتعارف وبذلك يصبح الصوم هو الفردوس الذي يزهر من منابت السلام وجذوره ليتفتح برائعات الوحدة المهمومة بإنتاج معرفة متجددة لأشكال الاتصال والتواصل بين الدول والمجتمعات والأفراد. ولن يتيسر إنتاج هذه المعرفة إلا بتطور فقه الصيام من فقه يسهب في تعداد المفطرات المنصوص عليها لصحة صيام الجسد إلي فقه يفتح صوم المعدة علي وجوب صيام الأذن والعين واليد واللسان، وإذا كان الصوم بمعناه اللغوي والاصطلاح يقودنا إلي مفهوم واحد هو الامتناع عن المباح والحلال فمعني ذلك أن فلسفة الصوم إنما تهدف إلي تصليب إرادة الصائم وتربيته علي امتلاك قدرة الامتناع المقدس عن الحرام، ومن أعظم الحرام الظلم والقتل والبغي والفتنة والبهتان وسواها من المخالب التي تفتك بالوحدة والسلام. وبعد: فقد بحّ صوت من ينادون كل عام في أمة محمد صلي الله عليه وسلم، لتعود إلي رشدها وتتوب عن غيّها، ولتتعامل مع رمضان بنزاهة وعدل يليق بما ورد عن الشهر الفضيل في محكم التنزيل، وفي ما كان يفعله الرسول الأكرم وصحابته الأخيار، لكن الناس آفتهم النسيان، وهذه ليست آفة المسلمين وحدهم، بل آفة البشرية جمعاء، التي تحوّل أغلبها إلي آلة استهلاكية نهمة، فصار الإنسان سلعة، تباع وتشتري، مع أنه خليفة الله في أرضه، ومعجزته الكبري.