العمدة هو منصب رفيع يوجد في كثير من بلاد العالم، ومهامه وتفعيل دوره وطريقة تعيينه تختلف من بلد لآخر لعوامل مختلفة، وفي مصر هو امتداد لشيخ البلد الذي كان يطلق منذ قدماء المصريين وظل مسماه هكذا حتي فترة ولاية محمد علي، ثم عرف بعدها باسم العمدة كما ذكر محمد رمزي في كتابه ' القاموس الجغرافي للبلاد المصرية ' ومازال شيخ البلد يؤدي دوره ويهتم بسجلات الناحية ويعين من الحكومة كالعمدة الذي يقوم بأعمال ضبط الأمن بوجود مساعدين له توظفهم الحكومة يسمون بالخفر وأكبرهم سنا يسمي شيخ الخفر. ولما كان منصب العمدة بالقرية هو أعلي أشكال السلطة والمخول الرئيسي لتطبيق القانون وحفظ الأمن فمن البديهي أن يحظي بالرضا والقبول والاحترام من أبناء قريته، ولما كانت القرية هي قاعدة الهرم الإداري في مصر فإن ذلك يستوجب منا الآن وبعد ثورة يناير إجراء التغيير اللازم للحفاظ علي سلامة هذا البناء علي أسس قوية ومتينة من شأنها أن تعطينا مؤشر جيد علي توفير الأمن والأمان والحماية اللازمة لكل قرانا. إن أنسب الطرق الآن وفي ظل الانفلات الأمني والأخلاقي لتمثيل السلطة المركزية بالقرية هو ضرورة إنشاء مراكز شرطة مصغرة مفعلة ومزودة بآليات حديثة ووجود أفراد الأمن من الخفراء المنتشرين بالقري شريطة تدريبهم وتسليحهم وإعطائهم ألقاب مستحدثة، فمن الملاحظ أن أكثر القري يوجد بها تمثيل إداري لكثير من الإدارات ما عدا إدارة الشرطة التي لا توجد إلا في القرية الأم وهذا ما لا يتناسب الآن مع الزيادة السكانية والجغرافية للقري وعدم توفير الأمن وزيادة الجرائم والنزاعات التي أصبحت عبئا كبيرا علي نقاط الشرطة بالقري والأقسام بالمراكز بعد أن تقلص دور القانون العرفي بوجود العمد ومشايخ القري في حل الكثير من النزاعات بشكل ودي كما كان بالماضي. إن حياة أهل القري تشابهت الآن مع حياة أهل المدن في طرق المعيشة والحداثة، وجود أجيال شابة غير ملتزمة بالتقاليد واحترام العرف الذي كان سابقا، كما أصبحت القري مصدر أول للخارجين عن القانون إلي المدينة وانتشرت بها ظواهر الإجرام والبلطجة وترويع المواطنين وتجارة المخدرات وهي جرائم تشكل خطرا علي أبناء القري المسالمين ولم يعهدها الريف المصري من قبل، كما انتشر الخوف وحالة عدم الاكتراث تجاه المصلحة العامة والسلبية بالقري، ومع وجود الكثير من الإدارات التي تلبي احتياجات ومطالب المواطنين بالقري فإنه من الضروري الآن أن يوجد تمثيل إداري لجهاز الشرطة لمراعاة مقتضي الحال. إن العمدة في الماضي كان له دور اجتماعي وتنموي وتهذيبي وكلمته مسموعة من أبناء قريته عندما كان يحقق مطالبهم ويحل مشاكلهم ويتمتع بالسمعة الطيبة وقت أن كان العرف والعادات والتقاليد الطيبة ومكارم الأخلاق ذاد وذواد القرية، أما الآن وبسبب الانفلات الأخلاقي قبل الأمني لم يعد له نفس قوة وهيبة الماضي علي المحيطين به بل أصبح كالموظف الحكومي عمله روتيني يتمثل في التصديق علي بعض الأوراق وإيصال البلاغات إلي الجهات الحكومية، إضافة إلي دور كثير من العمد قبل الثورة في تزوير الانتخابات ونقل تقارير أمنية عن أشخاص مطلوب التحري عنهم وإرسالها إلي مباحث أمن الدولة التي ربما ظلمت الكثيرين، وهو أيضا يخضع لأوامر شرطية قلصت دوره وقللت من مكانته بعد أن كان يهبها الكبير والصغير يستمعون له ويرضون ما ينطق به من أحكام واجبة، وكان يخشاه المجرمون فيما مضي وله طريقته المجدية في حفظ الأمن بالقرية عاقدا للمجالس العرفية بأحكامها النافذة في المشاحنات والخلافات المتعددة بين العائلات دون اللجوء لأقسام الشرطة، ولهذا فقد أصبح دوره أو الإصرار علي وجوده إداريا في قرانا غير مواكب لما نحن فيه الآن ولا يتناسب مع أهم مطالبنا وهو توفير الأمن لسكان القري المعزولين عن مراكز الشرطة الفاعلة بالمدن وبالتالي ضرورة إنشاء نقاط شرطة بالقري كضرورة حتمية أسوة بالدول المتقدمة التي تحقق الأمن والحماية لأبنائها بداية من العواصم والمدن ووصولا إلي القري والأماكن السكانية المترامية الأطراف من خلال توافر شبكة أمنية موحدة تعمل بنفس الآليات الحديثة وتحفظ حقوق أفرادها من رجال الأمن وتوفر لهم كل ما هو مطلوب لتوفير الأمن المواكب لظروف ومتطلبات العصر، إن الدول الغربية الآن تعاني من أزمات اقتصادية ورغم ذلك فهي متقدمة جدا في استخدام التقنيات الحديثة والكفاءة العالية في المنظومة الأمنية، كما تذخر دولها بكل الآليات الحديثة المستخدمة أمنيا والتي تتطور باستمرار ولهذا فهي لن تبخل علينا في أن تمدنا بكل ما هو مطلوب من آليات وخبرات في هذا المجال ما إذا كنا جادين في تحقيق مشروع النهضة. يبلغ عدد العمد بالقري حوالي 2999، وعدد مشايخ القري حوالي 13379، وقد مر تعيين العمد والمشايخ إداريا بمراحل مختلفة منها أن العمدة فيما مضي كان يتم اختياره بالانتخاب، ولما شهدت القري المصرية عبر عقود طويلة نزاعات وصراعات قبلية وعائلية وصلت إلي ارتكاب جرائم راح ضحيتها أبرياء من أجل الوصول إلي منصب العمدة والذي استأثرت به عائلات لفترات طويلة قدمت من خلالها تنازلات علي حساب مصالح القرية، كما خلفت نزاعات وحساسيات في قلوب أبناء القري توارثها أجيال لم يعيشوا تلك الأحداث، وأيضا كان بسبب الكثرة العددية للعائلات ومحاباتهم لأهل الجاه والنفوذ كان يأتي عمدة غير مرغوب فيه من أهل قريته فتكون النتيجة تولي عمدة جائر أو ضعيف، أو عاجز عن حل مشاكل الناس، أو عمدة مستغل كما أظهرته لنا السينما المصرية، أو سعي العمدة لإرضاء ناخبيه علي حساب معارضيه وميله لهذا علي حساب ذاك، و رغم ذلك كان يوجد من العمد من هم أهلا للتقوي والاستقامة والحكم بالعدل بين الناس أسهموا في حل مشاكل قراهم، ناهيك عما كانت تتكبده الموازنة العامة من مصروفات تتعلق بمتطلبات العملية الانتخابية المكلفة علي خزانة الدولة، ثم الاضطرابات والنزاعات الثأرية بالقري التي كانت تحدث بمجرد إعلان النتيجة بنجاح هذا وحرمان ذاك. إن طريقة انتخاب العمد علي هذا النحو كانت لها سلبياتها الكثيرة و كانت دافعا ومبررا لأن تصدر الحكومة قرارها لقانون 58 لسنة 1978 بشأن العمد والمشايخ مضمونه أن يتم الاختيار بالتعيين وليس بالانتخاب وفق شروط معينة، وكان الأهم في عملية التعيين هو أن يتسني للحكومة السيطرة علي أفراد الشعب بأن تضمن وجود فرد أمني يتمثل في العمدة الذي يوافق سياستها ويؤمن لها التقارير الأمنية و العملية الانتخابية، ومع التعيين أصبح العمدة موظف تابع لوزارة الداخلية ويعاون الأمن في ضبط الجرائم بمساعدة الخفراء المنتمون لجهاز الشرطة ، وقد تم تفعيل ذلك بصدور قرار سنة 1995 عندما أصبح تعيين العمدة في عهد وزارة حبيب العدلي بأن يصبح العمدة أداة لتنفيذ سياسة الحزب الوطني، كما أن التجديد له لمدة أخري ليس مرهونا بكفاءته بقدر حبه وانتمائه للحزب الوطني ونوابه ومساهمته في إرسال التقارير الأمنية مما أضعف دور العمدة بالقري وفقد المنصب هيبته وأمانته, بل ظلم نظام التعيين هذا الكثير من العمد الشرفاء الذين خسرناهم، كما أن هذا النظام كانت له سلبياته الكثيرة أدت إلي انعدام الأمن والأمان بالقرية وأطاحت بهيبة العمدة كرمز وأصبحت الناس تلجأ في كل مشاكلها إلي المركز مباشرة كما أصبحت المجالس العرفية لحل النزاعات بالقري حرة ومفتوحة وتشترط إقامتها بعيدا عن مقرات ومجالس العمد كما أصبح الخفر رغم أعدادهم الكبيرة وما يمثلوه من عبئ علي خزانة الدولة فإنهم لا يقدمون المطلوب منهم ولا يلتزمون بالتواجد في وردياتهم بلا ضوابط مما يعرض أمن القري للخطر. هناك آلاف من القري لم تمتد إليها يد التغيير وبخاصة بعد ثورة 25 يناير بعد أن طالت عمليات التطهير والتغيير معظم قيادات الدولة ولكنها لم تطل وحتي الآن الكثير من عمداء القري الذي عينهم النظام السابق فمازالوا محتفظين بمناصبهم وهي مسألة فيها إساءة واستهانة بمشاعر المخلصين من أبناء الوطن والذين قاموا بالثورة للقضاء علي كل من ساعد وأفسد الحياة السياسية في مصر وبالتالي لا يجوز الآن وجود تلك الرموز التي أساء بعضها للوطن وظلموا الكثير من أبنائه، وبجانب ذلك فإن المرحلة الراهنة تستوجب علينا إعادة الأمن والأمان في قرانا ومدننا بأن تتجه الدولة إلي إقامة مراكز شرطة بالقري علي الكثير من الأراضي المملوكة للدولة والمتوفرة في كل قرية ويمكن أن يصبح هذا مشروعا قوميا يمكن أن يساهم فيه أبناء القري الميسورين وتفعيل تلك المراكز مع الوحدات المحلية بعد إصلاحها وتوسعة اختصاصاتها، وأيضا إقامة أكثر من مركز شرطة بالمدينة الواحدة لمراعاة الزيادة السكانية لتخفيف الأعباء علي إدارات الشرطة شريطة أن تقام تلك المراكز علي أطراف المدينة لدواعي أمنية بسبب ما يمثله وجودها داخل المدينة من أخطار شاهدناها أيام الثورة وبخاصة بعد الهجوم علي المراكز والأقسام، ولا ضير في أن تظل مراكز الشرطة القديمة مفعلة للمصالح والأغراض المدنية. إن دور العمدة لم يعد له وجوب فيما يحدق بنا الآن من أخطار ولا تلائم تلك المنظومة الوضع الأمني الذي نرجوه، فإذا ما كنا جادين في إحداث التغيير فعلينا الأخذ بالأساليب الأمنية الحديثة كما في الدول المتقدمة حتي نحقق الأمن والأمان وهما الأساس في تأمين الحاضر لبناء المستقبل.