وقفوا جميعا رافعين رؤوسهم في إباء مهيب جميل.. لم يرمش لأحدهم جفن.. ولم يرتعد بدن.. تمتموا بصلواتهم الأخيرة، ونظروا إلي الأفق البعيد في شمم، موقنين بأنهم سيلحقون بآبائهم وأجدادهم النبلاء من شهداء الوطن.. كان إباؤهم يفضح جلاديهم المتلعثمين الذين ستروا ركاكتهم البربرية ببضع كلمات منسوبة زورا للدين، وأخفوا وجوههم المرعوبة من نورانية صمود أبنائنا البهي الشجاع بأقنعة مخاتلة.. وما هي إلا ساعات حتي جاء رد مصر الذي لا يقل بلاغة عن استشهادهم البليغ، رد أسكت المتنطعين والمتحذلقين من طحالب المستنقعات الآسنة.. رد أعاد لمصر كبرياءها.. وأثبت للعالم أن اختيارات الشعب المصري صحيحة، وأن هذا الشعب الذي ظل وسيظل في الخطوط الأمامية من معركة حرية الإرادة العربية والاستقلال الوطني قد اختار قائده الذي أثبت يوم 16 فبراير بقراره الثأري الوطني أنه علي مستوي آمال وطموحات أبناء مصر وأبناء الوطن العربي. فهو لم يرد الاعتبار لكرامة المصريين وحدهم بهذه الضربة الثأرية السريعة المباغتة لكنه رد الاعتبار لكرامة كل عربي. وكم كانت الفرحة غامرة في الشارع العربي من المحيط إلي الخليج عندما خرجت تصريحات البيت الأبيض التي أكدت بغيظ مكتوم أن مصر لم تبلغ أو تستأذن الادارة الأمريكية بشأن ضرب معسكرات داعش في ليبيا.. وهو أمر لو تعلمون عظيم.. بل هو أعظم من الضربة الثأرية نفسها.. لأن ذلك يؤكد أن مصر تقود فعلا معركة تحرير الإرادة العربية من كابوس التبعية الذي ظل جاثما علي صدورنا منذ كامب ديفيد حتي ثورة 25 يناير-30 يونيو. وهذا الأمر ليس جديدا فلقد سبق أن أكده السيسي عشية 30 يونيو عندما قال بالحرف الواحد: 'لم نستأذن أحدا في قرارنا بالوقوف بجانب شعبنا'.. إنه ببساطة نهج واضح بدأ عندما استردت جماهير 30 يونيو ثورة 25 يناير لتسترد بقوة جيشها حرية الإرادة الوطنية وتبدأ مسيرة الاستقلال الوطني الحقيقية التي هي دائما البداية اللازمة للاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. فلقد علمنا تاريخ مصر أن الطريق إلي الدولة الحديثة العادلة يبدأ باستقلال الإرادة الوطنية الذي يفتح الطريق لاستقلال الإرادة السياسية. ورغم وعورة الطريق، ورغم المؤامرات الأمريكية التي تستهدف حصار القرار الوطني المصري ومحاولات إشعال المنطقة حولنا عبر عملائها من أدعياء الدين الذين يبثون العنصرية والطائفيه إلا أن القيادة الوطنية المصرية تحقق الانجازات تلو الإنجازات علي الأرض. لأن مصر كما قال توينبي يوما: لا تتقدم إلا كلما ازدادت التحديات وهذا شأن الشعوب العريقة المتحضرة فكلما تعاظمت التحديات حول مصر كلما كانت حافزا للتقدم والنصر. لكن سكان البيت الأبيض ينسون أو يتناسون وقائع التاريخ الناصعة، فلقد كان وقف تمويل السد العالي حافزًا لتأميم قناة السويس وكان العدوان الثلاثي حافزًا علي المضي قدما في طريق الاستقلال وتكوين مجموعة عدم الانحياز وبناء الوحدة العربية والإفريقية وتحالف شعوب آسيا وإفريقيا ضد الاستعمار. ولقد كان الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا علي مصر عبد الناصر حافزا للتصنيع الثقيل وإتمام مسيرة التنمية المستقله. بل لقد كان تحدي خط بارليف الذي قيل إنه لا يقهرن، حافزا علي تدميره في ست ساعات في حرب أكتوبر المجيدة. إنها القاعدة التاريخية الذهبية: كلما عظمت التحديات ازداد إصرار المصريين علي تحقيق أهدافهم الوطنية. وعلي الجميع أن يعي ذلك. لذا فعلينا أيضا أن نعي أن المعركة الآن ليست ضد الإخوان المتأسلمين ولا ضد الارهاب، ولكنها ضد من يحاولون تكبيل الإرادة الوطنية.. وما الإخوان والإرهاب إلا أقنعة تتقنع بها أمريكا لمحاولة إيقاف التقدم المصري نحو مزيد من الاستقلال الوطني.. إنها معركة تحرير الإرادة الوطنية التي تقودها قيادة وطنية يصطف من خلفها الشعب المصري الذي يتوق للحرية والانعتاق من أسر التبعية ليقيم علي أرض الكنانة الطاهرة دولته الحديثة المستقلة التي ستحقق العدالة والحرية لأبناء مصر والأمة العربية.. إنها معركة المصير البليغة التي يخوضها الشعب بقيادة وطنية مخلصة ولا مكان فيها للمتحذلقين أو المتشككين أو المرتعشين.