ألقي فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف كلمةً بندوة 'مصر والجندية في الإسلام'، والتي أقيمت صباح اليوم بمسرح الجلاء برعاية القوات المسلحة.بحضور وزير الدفاع وقادة القوات المسلحة والضباط والجنود وبدأ فضيلته كلمته للحضور بقوله: أُحدِّثَكم أوَّلًا عن شهادةِ النبيِّ ﷺ لجُندِ مصرَ، وللجُنديَّةِ المِصريَّةِ، وهي شَهادةٌ تُمثِّلُ وِسامًا خالدًا علي صدر كلِّ مَن أسعَدَه الحظُّ بالانخِراطِ في صُفوفِ القُوَّاتِ المُسَلَّحةِ المصريِّةِ، أيًّا كان موقعُه، وكائنةً ما كانت رُتبتُه ودرجتُه، لقد امتَدحَكم النبيُّ ﷺ وأثني عليكم من وراءِ حُجُبِ الغيب وشَهِدَ لكم من بينِ سائر جُيوشِ الدُّنيا كُلِّها.. فقال: 'تَكُونُ فِتْنَةٌ، أَسْلَمُ النَّاسِ فِيهَا الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ' أو قال: 'خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا الْجُنْدُ الْغَرْبِيُّ'، وكان ﷺ يَقصِدُ بالجند الغَرْبيِّ جندَ مصر، كما بيَّنَه شُرَّاح الحديث، وكما صرَّح به راوي الحديثِ نفسُه، وهو الصحابيُّ الجليلُ 'عَمْرُو بْنُ الحَمِقِ' الذي هاجرَ إلي مصرَ بعدَ الفتحِ الإسلاميِّ واستَقرَّ بها، رجاءَ أن يكونَ واحدًا من جُندِها الذين وصَفَهم الحديثُ بأنهم أسلَمُ الناس وخيرُ الناس، يقولُ هذا الصحابيُّ الجليلُ: 'فلذلك قدمتُ عليكم مصرَ' أي: من أجل الالتحاق بالجُندِ المصريِّين قدمت مصر وأقَمتُ بها. وأضاف فضيلته: نعم هذه شهادةٌ من رسولِ الله ﷺ لجيش مصرَ بأنه الجيشُ الذي يأتي في المرتبةِ الأولي في الخيريَّة، وفي الثَّباتِ علي الحق حين تَظهَرُ الفِتَنُ، ويَتلَجلجُ الباطلُ، وتضطربُ الأمورُ، وتَفسُدُ السياساتُ، وقد أثبَتَ التاريخُ أنَّ الجيش المصريَّ قديمًا وحديثًا كان أهلًا لثقةِ النبيِّ ﷺ فيه، وتجسيدًا لشهادته له بالخير وبالثبات علي الحق، وهذا ما سجَّلته وقائعُ التاريخ من أنَّ الجيشَ المصريَّ قديمًا هو الذي حرَّر القدسَ من الجيش الصليبيِّ، وأنَّ المغولَ الذين أبادوا الدولَ، ودمَّروا الحضاراتِ شرقًا وغربًا كانت نهايتُهم التي لم تَقُم لهم بعدَها قائمةٌ علي أيدي الجيش المصري، وفي التاريخِ الحديثِ وفي حربِ العاشر من رمضان من عام 1973م، رَدَّ جيشُ مصرَ الكيانَ الصهيونيَّ علي أعقابِه وهزَمَه هزيمةً نَكراءَ، لَم يَجرُؤ بعدها أن يتحرش بجيش مصرَ ولا بالمصريِّين.. وبالأمسِ القريبِ كنتُم أيُّها الأبطالُ الأشدَّاء طوقَ نجاةٍ لمصرَ وشعبِها، حين تَآمَر عليها الطُّغاةُ والبُغاةُ والمُجرِمون، وأرادوا بها وبالعربِ شرًا مُستطيرًا، ودبَّروا لها المُؤامَرات بليلٍ، وكادت هذه الفِتنَةُ العَمياءُ وما أعقَبَها من عُنفٍ وفوضي وإرهابٍ أسود، تهدمُ بناءَ الوطنِ، وتلفُّ بظَلامِها الدامس البلادَ والعبادَ، لولا يقظَتُكم، ويقظةُ قياداتِكم الحكيمةِ، ومن ورائِها يَقظةُ الإرادةِ الشعبيَّة الجارفة لهذه المُخطَّطاتِ التي سَهِر علي تدبيرِها كُهَّانُ الاستعمارِ الجديدِ، وأنفقوا مِليارات الدولارات من أجل إسقاطِ مصرَ وضربِها في مقتلٍ. وهنا وفي هذه الفِتنةِ الجديدةِ كان جُندُ مصرَ الغربيُّ كما وصَفَه النبيُّ ﷺ قبلَ أربعة عشر قرنًا من الزمان: أسلَمَ الناس وخيرَ الناس.. وما أحسَنَ ما سطَّرَه الإمامُ السيوطي في شرحِه لهذا الحديثِ في نصٍّ بديعٍ يقولُ فيه: 'فهذه منزلةٌ لمصرَ في صدر المِلَّةِ، أي: [صدر الإسلام] فقد استَمرَّت 'مصر' مُعافاةً مِن الفِتَن، لَم يعتَرِها ما اعتري غيرَها من الأقطارِ، وما زالت معدنَ العلمِ والدِّين، ثم صارت في آخِر الأمر دارَ الخلافة، ومَحَطَّ الرِّحالِ، ولا بلد الآن في سائرِ الأقطارِ، بعد مكة والمدينة، يَظهَرُ فيها من شعائر الدِّين ما هو ظاهرٌ في مصر' مؤكدًا فضيلته أنه إذا كان النبي ﷺ والذي لا ينطقُ عن الهوي قد شَهِدَ لجُندِ مصرَ في هذا الحديث الصحيح بأنَّهم خيرُ الناس وأسلَمُهم، فإنَّه شَهِدَ لشعبِ مصرَ بأنه شعبٌ يَقِظ مُنتبِهٌ لمكائدِ أعدائِه إلي أن يَرِثَ الله الأرضَ ومَن عليها، و'أنهم في رِباطٍ إلي يومِ القيامة'.. وأوصي بالمصريِّين خيرًا مسلمين وأقباطًا، وأمَر أصحابَه بالإحسانِ إليهم كما ورد في الحديث الصحيح. وهذه وصيةٌ من مُعجزاته ﷺ، لأنَّ فتحَ مصر كان غيبًا من الغُيوبِ حين حدَّثَ أصحابَه عن مصرَ والمصريين وأوصاهم بها وبشعبِها خيرًا وإحسانًا، ومعلومٌ أنَّ الصحابةَ فتَحُوا مصرَ في عهدِ عُمرَ ﭬ، أي بعدَ وفاتِه ﷺ بأحد عشر عامًا. وقال فضيلته: إنَّ مصرنا هذه – كما تعلمون حضراتُكم وتعلمُ الدُّنيا بأسرِها – هي بلدٌ عريقٌ، وشعبُها شعبٌ أصيلٌ، له تاريخٌ ضاربٌ في جذور الأزمان والآبادِ، عرَك التاريخَ، وعركَتْه الأحداث، وصمَد للغُزاة والطُّغاة، وقبَرَهم في تُرابه ومِياه نيلِه، وكم تحطَّمت علي صُخوره العاتيةِ من مُؤامراتٌ حاكَتها يدُ الغدر والخيانة والتربُّص، ومصرُ ليس بلدًا صنعته الأطماع في ثروات الآخَرين، وسرقةُ مُقدَّراتهم، وإنما هي بلدٌ صنَعَه التاريخُ وصاغَتْه القيمُ الدِّينيَّةُ والفلسفاتُ الإنسانيَّةُ، ولشعبِها الأبيِّ حضارةٌ سبَقت حضارات العالَم كله، حضارة عمرُها سبعةُ آلاف عام أو تزيد، ولم يُسجِّل التَّاريخ حتي هذه اللحظة حضارةً قبلَ حضارة المصريين عرَفت العلمَ والقراءةَ والكتابةَ والهندسةَ والحسابَ والكيمياءَ وفنونَ القِتَال واختراعَ الأسلحةِ وأدواتِ الحروب. وأضاف فضيلته: إنَّنا لنَذكُرُ أبطالَ مصر الأشِدَّاء بالإجلالِ والإكبارِ، شُهَداءَ قُوَّاتنا المُسَلَّحة الذين قَضَوْا في ميادينِ الشَّرفِ والكرامةِ والجِهادِ في سبيلِ اللهِ والدِّفاعِ عن الوطنِ، وكفي الشهداءَ تكريمًا ورفعةً وتعظيمًا ما خصَّهُم به ربُّهم من عُليَا المنازلِ في الجِنان، وما أعدَّه لهم من نعيمٍ مقيمٍ: 'فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ' 'التوبة:111'، وأيضًا ما ذكَرَه النبيُّ ﷺ في شأنِهم بقوله: 'كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَي عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَي، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَؤمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ'، وقوله: 'لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ الله أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا' والأحاديثُ في فضلِ الشهادةِ والاستشهادِ كثيرةٌ يضيقُ عن ذِكرِها المقامُ.. وقام فضيلته بتهنئة الإخوة المسيحيين بعيدِ الميلاد، وقال: وهنا أُذكِّرُ أنَّ تَزامُنَ ميلادَيْ 'نبيِّ الرحمةِ محمدٍ ونبيِّ المحبَّةِ عيسي-عليهما الصلاةُ والسلامُ' إنَّما هو بِشارةُ خيرٍ للدنيا كلِّها وللمصريِّين بأنَّ عامَنا الجديدَ هذا سيكونُ عامَ رحمةٍ ومحبَّةٍ وخيرٍ وبركةٍ علي مصرَ وشعبِها - إن شاء الله -. وختم فضيلته كلمته بالتأكيدِ علي أنَّ الأزهر يقفُ إلي جوارِكم في معركةِ حفظِ الوطنِ والبِنَاءِ، ومعركةِ التصدِّي للإرهاب، وأظنُّكم تَتَّفِقُونَ معي في أنَّ مواجهةَ التَطرُّفِ والغلوِّ والعُنفِ بِسلاحِ الكلمةِ والفكرِ والرأيِ لا تقلُّ خَطَرًا عن مُواجَهتِه في مَيادين القِتَالِ وساحاتِ المَعارِك.