الاطمئنان العميق الذي دفع عشرات الآلاف إلي المشاركة في تشييع الرئيس الراحل عمر كرامي في طرابلس، والسير في شوارع كانت إلي زمان قريب ساحات قتال واقتتال، ما كان لهما أن يحصلا لولا الثقة العميقة بحقيقة عاصمة الشمال الآمنة، وبطيبة أهلها الذين مسحوا في لحظات وداع زعيمهم سلبيات صور بشعة استمات البعض في الصاقها بمدينة ما امتحنت يوما بوطنيتها وعروبتها وإيمانها إلاّ وفازت بجدارة في الامتحان. وبهذه المعني، لم تكن جنازة الرئيس الراحل عمر كرامي مجرد استفتاء حاشد علي مكانة الرجل وموقعه في قلوب الطرابلسيين واللبنانيين، رغم كل ما تعرض له من تجني وقسوة وجحود، بل كانت أيضا رسالة مدّوية تؤكد إن كل ما شهدته طرابلس، علي مدي سنوات، من ظلم وظلمة، وقهر وغلّو يذهب كالزبد جفاءً ولا يبقي في قلعة الكرامة إلاّ ما ينفع الناس من حكمة واعتدال وروح جامعة. تذكّرت الشوارع التي مررنا بها في موكب تشييع الرئيس الراحل من الجامع المنصوري الكبير إلي ساحة النجمة فباب الرمل مروراً بقهوة موسي الشهيرة وصولا إلي المدافن التي ضمت أغلي الرجال في مدينة الأولياء والشهداء، مثلما ذكرّتني الجموع المتدافعة من كل حدب وصوب بطرابلس في ازهي أيامها يوم كانت تقدم الشهداء في مظاهرات الاستقلال، وفي ثورات التحرر، وفي ميادين المقاومة في الجنوب اللبناني كما فلسطين وربوع الوطن العربي. كما ذكرّني احتفاء أهل البترون والكورة وزغرتا بموكب الفقيد الكبير إن الشمال عصيّ علي الفتنة، منارة للوحدة، وقلعة للوطنية الحقّة. لقد تذكرت، وأنا أسير بين الطرابلسيين الأحباء، ساحة التل ومنشيتها وساعتها، قهوة التل العليا وروادها، سينما روكسي وأفلامها، أحياء التبانة 'الغاضبة' ورجالها، قبة النصر وفرسانها، بهاء أبو سمرا وبساتينها، حرمان الجبل ومظلوميته، الأسواق الداخلية بحيويتها وتراثيتها، والزاهرية الزاهرة بألق العيش الواحد فيها، كما تذكّرت السويقة وباب الحديد وطلعة الرفاعية، والميناء حصن التحرر والتقدم، والقلمون بوابة الثغر الذي طالما حرس آمال الأمة وكرامتها. لم أصّدق يوماً إن طرابلس هي غير ما شاهدناه في وداع الرئيس عمر كرامي، ولم اصدّق أبدا أنها لم تكن يوماً إلاّ علي صورته وصورة والده الرئيس الراحل عبد الحميد كرامي، وشقيقه الشهيد الرئيس رشيد كرامي، بل علي صورة منافسيهم الانتخابيين يوم لم تكن الانتخابات مجرد تعداد طائفي ومذهبي، ويوم لم تكن معّلبة في بوسطات ومحادل. لذلك، نجح أبو خالد رحمه الله أن يثبت في وداعه حقيقة طرابلس التي أمضي حياته مبشرا بها، وجاهداً لإبرازها، ومؤكداً علي موقعها، كما نجح اليوم ابنه الوزير فيصل وكل من اشرف معه علي التنظيم والتشييع في أن لا تُطلق رصاصة واحدة في مدينة ارتبط اسمها بالرصاص والقذائف والقنابل علي مدي سنوات، لا بل نجح الوزير أبو رشيد مع أركانه في أن ينظّموا جنازة تصدرها رئيس للحكومة ورؤساء سابقون للجمهورية ولمجلس النواب ولمجلس الوزراء ومفت للجمهورية كانت كلمته في رثاء الراحل، برصانتها واناقتها وعمقها تعبيراً عن مرحلة جديدة في حياة المدينة والوطن. بل أن يختلط هؤلاء جميعاً ومعهم وزراء ونواب حاليون وسابقون وممثلون لكل تيارات المدينة واحزابها بأمواج بشرية متلاطمة وان يسيروا باطمئنان وكأنهم يرددون مع الراحل عمر كرامي 'انها طرابلس.. فأدخلوها أمنين.. '