تعود النشأة الحديثة لتيار 'الإسلام السياسي'، إلي العقود الأولي من القرن العشرين، بعد انهيار الدولة العثمانية، عقب انتهاء الحرب العالمية الأولي، وإلغاء مصطفي كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية في 3 مارس 1924، وإعلانه تركيا دولة علمانية مدنية حديثة علي الطراز الأوربي. من لحظتئذٍ صارت الخلافة هي الفردوس المفقود الذي تنبغي استعادته، باعتباره الشكل الأقدس للحكومة الإسلامية الأولي، التي ترتبط في الأذهان بأزهي عصور الإسلام مجدًا وعدلاً وحضارة. منذ ذلك التاريخ بدأ الزج بالدين وتوظيف كل حمولاته المقدسة وأنساقه القيمية الرفيعة في معترك السياسة وهدفها المعلن هو الوصول إلي الحكم الذي صبغه الإسلامو سياسيون بصبغة إسلامية هي الخلافة، ولم يقل لنا هؤلاء أي خلافة يقصدون ويرومون تطبيقها: هل هي خلافة عثمان رضي الله عنه وفتنتها التي أحالت الدولة إلي بحر من الفوضي والدماء؟ أم هي خلافة بني أمية التي استحالت علي يد معاوية بن أبي سفيان إلي رياسة قبلية وملك وراثي عضود؟ أم هي خلافة بني العباس التي أسست لسطوة القوة والقهر والبطش وذبح الخصوم في سبيل الحكم والسلطة؟ أم تراها خلافة الفاطميين التي قامت علي الاغتصاب وانتشار الظلم والجهل والخرافات وفرض المذهب الشيعي علي الناس بالقوة؟ أم لعلها خلافة العثمانيين التي أصبحت سلطنة وأججت الصراعات والحروب الخارجية، وعمدت إلي تعطيل الحكم بالشريعة الإسلامية حين 'رسم السلطان سليمان 'القانوني!!' بإبطال قضاة المذاهب الأربعة من التصرف في القضاء بالديار المصرية، وسلَّم جميع الأحكام لقاضٍ واحد من قضاة الروم هو قاضي العسكر.' كما يورد المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه 'الخلافة الإسلامية'. إن الخلافة لا تعدو أن تكون شكلا من أشكال الحكم، وليست هي الشكل الوحيد، ولو كانت شأنا دينيا أساسيا خالصا ما تركه الرسول صلي الله عليه وسلم دون تحديد ليؤجج الخلاف بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة، بعد موته صلي الله عليه وسلم بساعات قليلة. ولكن جوهر الأمر في اعتقادي هو تحقيق مصالح الناس وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وضمان حياة كريمة لهم ولأهليهم أيا ما كان شكل الحكم. وإذا ما جاوزنا هذا التوظيف الحديث للدين في خدمة أغراض الحكم والسياسة، وعدنا نسائل التاريخ الإسلاميّ للحفر عند الجذور البعيدة لنشأة الإسلام السياسيّ، إذن لهالنا الأمر، حيث التوظيف الذي يكاد يصل لحد التلاعب بالدين في صراع علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان علي خلافة المسلمين، واشتعال أوار الحرب بينهما، وإراقة الكثير من الدماء المسلمة الذكية في سبيل ذلك. فحين شارف جيش معاوية علي الانهزام، ولم يبق منه إلا نفس واحد قال معاوية لعمرو بن العاص: 'يا عمرو ألم تزعم أنك ما وقعت في أمر قط إلا وخرجت منه؟ قال: بلي. قال أفلا تخرج مما تري. قال: والله لأدعونهم، إن شئت، إلي أمر أفرق به جمعهم، ويزداد جمعك إليك اجتماعا، إن أعطوكه اختلفوا، وإن منعوكه اختلفوا. قال معاوية: وما ذلك؟ قال عمرو: تأمر بالمصاحف فترتفع ثم تدعوهم إلي ما فيها فو الله لئن قبله لتفترقن عنه جماعته ولئن رده ليكفَّرنه أصحابه.. ' تلك هي القصة كما يرويها الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري في كتاب 'الإمامة والسياسة'، وأخطر ما فيها هو حيلة عمرو باستخدام المصحف الشريف أداة للخداع والحيلة وبث الفرقة بين المسلمين، جنود جيش علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه.. ولعل الفارق واضح هنا بين الاسلام الإلهي الذي يجعل القرآن الكريم عامل اجتماع والتئام وتماسك حين يهيب بالمسلمين قائلا: 'واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا'، وبين الإسلام السياسي الذي يُخضع القرآن العظيم لضرورات الحرب والسياسة ويجعل منه أداة للتفريق وإثارة الاختلاف كما اتضح من كلام عمرو بن العاص. أي أن الإسلامين إسلام الهداية وإسلام السياسة يسيران في اتجاهين متضادين متناقضين مختلفين. ولا يزال فواعل الإسلام السياسي المحدثون أحفاد عمرو بن العاص يكررون بخيال سقيم حيلة جدهم بحذافيرها إلي يومنا هذا. تراهم يرفعون المصحف الشريف ويولوحون به من نوافذ عربات الترحيلات إلي السجون وهم يتظاهرون ويخربون ويحرقون، وفي المحاكم وهم يحاكمون علي جرائم القتل والاعتداء وقطع طريق المسلمين، في أكبر عملية خداع وإيهام بأن القاضي إنما يحاكم هؤلاء لا علي جرائم اجترحوها وإنما لحملهم المصحف والدفاع عنه والاعتقاد بما فيه، والقاضي في هذه الحالة إنما يحاكم المصحف الشريف ذاته أو حامله علي أقل تقدير، لتهييج المسلمين والتلاعب بمشاعرهم الدينية الصادقة، أو كأنهم يقولون لهم في التحليل الأخير إن الخصومة إنما هي بين القاضي والمصحف ففي أي الصفين تقفون؟! يا قومنا، احفظوا للدين جلاله وقداسته، ولا تدنسوا محياه السامي بأطماع الدنيا، وألاعيب السياسة وحيلها، والسعي المحموم إلي امتلاك زمام السلطة، والنزوع إلي الحكم والتحكم في رقاب الخلق، فالدين في جوهره دعوة وهداية، وإن هداية رجل واحد لهي خير للداعي مما طلعت عليه الشمس، كما قال المعصوم صلي الله عليه وسلم في الحديث الشريف.