قبل أن يرتكب 'بارتولدي' فعله الفاضح بأزمان بعيدة، كان أهل المحروسة، وحكامها، وغزاتها، علي اختلاف أجناسهم، وألوانهم، ومعتقداتهم، بلا استثناء قد سبقوه فيما هو أبشع جرماً، وأشد فتكاً وإبادة لآثار مصر، وتراث قدمائها، وهو ما فتح أبواب العبث علي مصاريعِها أمام ذلك النحات، وأمثاله من الانتهازيين، فإن كنا نهدر، ونهين، ونستهين بما حبانا الله به من ثروات، ونخرب وندمر ونمحو حضارات آلت إلينا، وكم أضنت الأجداد وأرقتهم حتي أنجزوها.. فما بالك بالغرباء الذين يدركون أنهم مهما فعلوا فلن يضروا ويفسدوا ويخربوا بقدر ما اقترفت أيدي المصريين أنفسهم في حق أنفسهم، بل إنهم رأوا في ميراث المصريين أملاكاً علي المشاع بلا أصحاب ولا حراس، ومن الطبيعي أن تصير حقاً مكتسباً لمن تصل إليه يده أولاً. بل إنهم دائماً ما يرفعون القبعات، وينحنون لحضارة مصر وآثارها، حريصين في ذلك علي الصيد في ماء إهمالنا، وجهلنا، واستهتارنا العكر، مرددين نشيد الافتخار بامتكار، مؤكدين فيه أنهم الأقدر والأجدر بحمايتها، والحفاظ عليها، زاعمين انتماء تلك الحضارة للإنسانية كلها، وليس لمصر وحدها، لذا فهم يستحثون العالم بأسره لمواصلة الاستكشافات، والأبحاث للاستفادة بخلاصة نتائجها من أجل خير البشرية جمعاء، بنداءٍ ظاهره الرحمة، وباطنه الرغبة في الاستحواذ والهيمنة. ولهم كل الحق في أكثر وأبعد من ذلك، وهم يشاهدون بأعينهم ويقرءون بأعين التاريخ ما فعل السفهاء منا وما أكثرهم.. فقد ذكر المؤرخون، أن العمال القائمين علي إنشاء وزخرفة وصيانة المقابر الفرعونية كانوا هم أول من انتهكوا حرمتها، وحطموا ما بها من مومياوات، وسطوا علي محتوياتها من أكفان كتانية، وتوابيت حجرية وذهبية وفضية، وأثاثات ملكية، بالإضافة إلي المقتنيات والمجوهرات الثمينة، وفي كثير من الأحيان كانت تلك السرقات تتم بمساعدة بعض الكهنة والموظفين المرتشين. وقد وردت بعدد من البرديات، تفاصيل عن وقائع قضية كبري لسرقة المقابر، في عهد 'رمسيس التاسع' وكان من أبطالها محافظا طيبة الشرقية والغربية.. واستمر الحال هكذا حتي أن الكهنة والموظفين المكلفين بحماية المقابر كانوا من وقت لآخر ينقلون المومياوات، وباقي المحتويات إلي غيرها من المقابر لتضليل اللصوص. أما السائحون، والمغامرون، فبجانب سعيهم لنهب كل ما تطاله أيديهم من كنوز، فقد ساهموا في إتلاف حجرات دفن الفراعنة، المنحوتة في الصخور بوادي الملوك، مثلها مثل كسوة الأهرامات بسبب اعتيادهم علي تسجيل أسمائهم عليها، وفيهم من كان يحرص علي الاحتفاظ بأجزاء منها، وبالتأكيد سبقهم المصريون في ذلك، بل تنافسوا معهم في الإهمال، سواء عن عمد، أو تخاذل، أو جهل.. حتي أن قصر التيه، أو معبد اللابيرانت البديع الذي شيده 'إمنمحات الثالث' عندما اكتشفوا موقعه عام 1889 لم يجدوا منه شيئاً سوي حطام، إذ كان السكان يستخدمون أنقاضه في صناعة الجير، بينما كانوا يستعينون بأحجاره هو، وغيره من المعابد، والأماكن الأثرية في عمليات البناء، لاجتناب عناء الانتقال إلي محاجر بعيدة لتقطيع أحجار جديدة، كما اتخذوا معبد 'حورس' بإدفو للسكني حيث بنوا فوقه بيوتاً لهم!! وأما الرومان، فقد كانوا من أشد المولعين بالمسلات الجرانيتية مما ألهب رغبتهم في الاستيلاء عليها، وخاصة في عصر الملك 'قسطنطين الأكبر' الذي سلب العديد منها، ومن بينها مسلة للملك 'تحتمس الثالث' والتي تم نقلها إلي القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية آنذاك، والمعروفة حالياً باسطنبول، ولا تزال باسقة هناك بميدان السلطان أحمد إلي اليوم، كما نقلوا أيضاً إلي عاصمتهم تماثيل معبد 'إيزيس' بفيلة إثر إغلاقه بدعوي أنه يحث علي الارتداد إلي الوثنية بعد دخول المسيحية وانتشارها في مصر، مما حرض الأقباط علي إفساد الآثار عمداً، لاعتقادهم أنها من عمل الشيطان!! وجاء العرب إلي مصر، وأعادوا الكرة من جديد بتكرار نفس الشنائع التي ارتكبها من سبقوهم فتسللوا إلي داخل الأهرامات والمعابد، والمقابر وخربوها، بحثاً عن الكنوز المخبأة، وتعاملوا معها كمحاجر جاهزة، سالفة التقطيع، وأيضاً نزعوا كسوة الأهرامات، والمعابد، والمقابر لاستخدامها في بناء مدينة الفسطاط. ومن أغرب الانتهاكات، وأكثرها إثارة للنفور والاشمئزاز هي سرقة المومياوات، ليس لطبيعة الشيء المسروق، وإنما بسبب الغرض الذي كانت تتم من أجله، وهو علاج الكدمات والكسور والجروح والغثيان عن طريق مادة 'القار' الموجودة بتجاويف الجثث وكان الأوربيون والعرب أيضاً يقرون بفاعلية هذا العقار الطبي القميء، وهكذا استمر التعاون بين التجار واللصوص في هذا الصدد لأجل توسيع دوائر نشاطهم الرائج، وانتعاش تجارتهم الرابحة، وظل استخدام 'عصارة الجثث الفرعونية' في التداوي شائعاً حتي القرن التاسع عشر. ولنستكمل في العدد القادم بمشيئة الله. [email protected]