هل تُعد د.'رضوي عاشور' التي غادرتنا بالأمس القريب.. استثناءً من قاعدة؟! تلك القاعدة التي حاولت أن تضع النساء المصريات وربما العربيات علي 'هامش السيرة'، بل هامش الحياة.. بعد أن غزا المصريين ذلك التيار الإرهابي منذ عقود أربعة.. تيار المتاجرة بالدين وتكفير الآخر المسلم.. الذي يخالفه الرأي والحجة! وقد عكف علي السيطرة علي الرؤوس وبخاصة النساء، ومشوهًا بأفكار بالية تعادي العصر والعلم والتطور، بل التناول الوسطي لصحيح الإسلام. ورؤيته للمرأة وتمجيدها عقلًا، وإرادة، ووجودًا. هل تُعد د.'رضوي عاشور' نموذجًا فريدًا للمرأة المصرية والعربية المثقفة، المبدعة، الباحثة، الدارسة، الأستاذة، الناقدة، باختصار المرأة 'المقاومة' لكل أشكال الفساد والعنف، والقهر والاستبداد؟! نقولها بملء أفواهنا وعقولنا وحناجرنا: نعم.. إن رضوي عاشور من هذه الأبعاد المجتمعة ليست امرأة وإنما كتيبة متحركة من النساء. إن رصيدها الفكري والإبداعي يؤكد أنها أخذت نفسها بقسوة. فلم تتوان عن بذل العرق، والجهد، والإخلاص حد التفاني في كل مهمة قامت بها وآمنت بجدواها في المجتمع ونفعها للناس.. ابتداءً من كونها أستاذة جامعية -آداب إنجليزي- تربي أجيالًا تلو أجيال.. إلي ناقدة وباحثة تفتش عن التابع إلي أن ينهض.. ولها دراسة تحمل العنوان ذاته 'التابع ينهض'.. ثم إلي كونها مدافعة مجيدة عن الثقافة القومية.. منذ أن أسست في السبعينيات مع أستاذتها د.لطيفة الزيات 'لجنة الدفاع عن الثقافة القومية' والتي تصدت للهجوم علي الثقافة الوطنية والعربية في أعقاب معاهدة 'كامب ديفيد'.. حيث كانت الأمواج عاتية في طمس الثقافة الوطنية ومحاولة الذوبان في المد الصهيوأمريكي، وتحويل مصر إلي حظيرة خلفية تابعة لذاك الفكر الغازي.. فما كان من د.'رضوي عاشور' إلا أن كانت بمثابة شعلة وطنية متأججة ومتوقدة ضد هذا الغزو الفكري بكافة الأساليب والأشكال. تقول د.'رضوي' في ذكرياتها الخاصة: عندما غادرت طفولتي، وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي، وجدت بداخله هزيمتهما. بكيت ولكني بعد البكاء والتفكير أيضًا.. ألقيت بالمنديل وذهبت بعيدًا.. وكنت غاضبة.. وقد عدت إلي الكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: 'ماذا لو أن الموت داهمني؟' ساعتها قررت أنني سأكتب كي أترك شيئًا في منديلي المعقود.والحقيقة أنها تركت لنا أشياء بل وأشياء نفيسة ومتنوعة للغاية من الرواية إلي القصة.. ومن البحث إلي الدراسة الوافية والمدققة. وتركت فيما تركت صورة للمثقف العضوي كما حددها المفكر 'جروشي' الذي يسعي جاهدًا للتغيير، متسلحًا بإرادة ووعي منخرطًا وسط الجماهير، لا يفرق بين الذاتي والموضوعي، بين الشخصي والعام.. ومن هنا رأيناها عضوًا مؤسسًا بارزًا في مجموعة '9 مارس' التي تشكلت من أساتذة الجامعة.. الذين يطالبون باستقلال الجامعة، ووقفوا ضد استبداد 'مبارك' وتحويل ساحة الجامعة إلي ساحة يتحكم فيها الأمن أكثر ما يسودها الحرية والاجتهاد والعلم والتنوع.. في كتابها 'أثقل من رضوي' والذي يمثل مقاطع من سيرتها الذاتية، تذكر مدي تعسف رئيس الجامعة حيال سفرها الضروري.. إنهم يختلقون الأسباب لعرقلة السفر.. هي تخفي مرضها ولا تريد أن تتاجر به كالبعض!! وتتشبث بموقفها ونضالها ضد الممارسات القمعية في الجامعة، ولهذا تصر علي السفر دون أن تعطي هذه الإجراءات البيروقراطية أدني اعتبار.. لتكتشف من خلال الأخبار التي ينشرونها عنها في الجرائد مدي كذبهم فتضحك بحرارة وهي علي سرير المرض في أمريكا! والحكاية أنهم اتهموها ضمن ثلاثة من زملائها الأساتذة بإثارة الشغب داخل الجامعة -جامعة عين شمس- كان الخبر بمثابة الكوميديا السوداء في السنة الأخيرة من حكم مبارك.. والأساتذة في حقيقة الأمر.. لم يفعلوا شيئًا سوي أنهم قاموا بتوزيع الحكم الصادر من القضاء بعدم قانونية وجود الحرس الجامعي.. ولم تر 'د.رضوي' غير اعتداء مجموعة من البلطجية علي أساتذة الجامعة أو تحويلها للتحقيق.. لم تر غير ذلك كارثة كبري.. وإنما الكارثة الكبري من وجهة نظرها.. تتلخص في تصريحات رئيس الجامعة.. حينما وصف الأساتذة 'بالمندسين'!! تركت كل هذا.. وراءها وذهبت للعلاج.. بعد أن تحدد موعد الجراحة والذي تصادف يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011.. ومن الغريب والمدهش أنها بعد العملية مباشرة كانت تسأل عن أخبار الثورة وميدان التحرير.. وقد أتت متلهفة إلي مصر في أعقاب العملية الجراحية الكبري.. لتذهب أول ما تذهب إلي ميدان التحرير وتشد علي أيدي الشباب الثائر. كانت كمعلمة وأستاذة جامعية.. لديها قدرة فائقة علي التقاط جوهر الأشياء وإن بدت للآخرين غير ذي اعتبار.. ففي إحدي رواياتها الثماني.. وأظن أنها رواية 'قطعة من أوربا'.. ترصد فيها كيف صار الشباب في الجامعة يعتني بحذائه أكثر ما يعتني بعقله! تتوقف أمام ظاهرة 'الروشنة' التي انتشرت.. والتي جعلت شباب الجامعة منشغلًا أساسًا بماركة الحذاء.. المهم عنده أثمان البضاعة لا البضاعة نفسها وجودتها! وهي تخلع ذلك علي المجتمع وكيف تتحكم فيه النزعة الشرهة للاستهلاك 'والفشخرة'.. وانتشار وسيادة الأحكام الزائفة.. إذ تتحدد النظرة إلي الإنسان وتقييمه لا بناء عما يعمل ويبذل من جهد وعطاء. وإنما علي ماركة السيارة والحذاء الذي يرتديه!! رغم ذلك تؤكد أنها تري رسائل التشاؤم التي يبعثها المثقف.. هي فعل غير أخلاقي.. وأن كتاباتها ما هي إلا محاولة للتعامل مع الهزيمة، بل إن الكتابة بالنسبة لها هي محاولة لاستعادة إرادة منفية، ولهذا ما أن نقترب من رصيدها الإبداعي '8 روايات، ومجموعتين قصصتين'، سنكتشف حقًا أنها غردت خارج سرب السلطة والسلطان.. في ثلاثيتها 'غرناطة' علي سبيل المثال.. تحيي فينا أجواء 'نجيب محفوظ' الشعبية المعبأة بالدفء الإنساني، والحميمية، والاحتفاء بالحياة رغم قسوتها وآلامها. إنها تحتفل بالأمل رغم الحصار.. بالبقاء رغم الرحيل.. بالمستقبل رغم عتمة الواقع. إنها دائمًا تفتش في الأسرار، وتجسد المسكوت عنه.. وتضرب بقلمها في الجذور الغائرة في الأعماق.. لتؤسس وعيًا مخالفًا.. وعيًا يستنهض فينا الكبرياء والعزة والعزيمة.. والعزة القومية.. وإن شئت العزة الإنسانية وهذا سر البقاء. لا أعرف لماذا تذكرت تلك العبارة 'إميل حبيبي.. باق في حيفا' والتي أوصي صاحب الرواية الشهيرة 'المتناول' أن ينحتها ويعلقها علي قبره.. متحديًا بذلك الخلافات الحادة بين الفصائل، بل ومحاولة طمس الهوية الفلسطينية العربية، وانتزاع الوطن الفلسطيني وتهويده علي يد الصهاينة.. وقد يكون المبرر الواضح لدي د.'رضوي' أن شابكت الهوي المصري بالهوي الفلسطيني منذ شبابها.. بعد أن تزوجت الشاعر الفلسطيني الكبير 'مريد البرغوثي' وأنجبت منه الشاعر الشاب 'تميم البرغوثي' الذي يقول عن أمه 'لو تسابق زمنها تسبقه ويحفي.. تكتب في كار الأمومة من الكتب ألفين.. طفلة تحمي الغزالة وتطعم العصفور.. أمي حافظة شوارع مصر بالسنتي.. تقول لمصر يا حاجة ترد يا بنتي.. تقولها احكي لي فتقول ابدئي أنت'. في 'ثلاثية غرناطة'.. والمقسمة إلي ثلاثة: 'غرناطة.. مريمة.. الرحيل' تصور لنا باقتدار وعزوبة سقوط الأندلس.. كما أنه حدث بالأمس القريب.. لنتحسس رؤوسنا تجاه القضية الفلسطينية.. وما الذي حدث في أعقاب وعد بلفور المشئوم وحتي اليوم.. إنها تضيء لنا الحاضر من خلال دروس التاريخ.. وتحفزنا علي قراءة ما بين السطور.. بعد أن نتنفس الأحداث ونعانق الشخصيات.. تلك الشخصيات التي اكسبتها لحمًا ودمًا.. فباتت تتحرك أمامنا وكأنها تلامس أناملنا. أقف حيال نموذجين.. أفاضت في رسمهما بدقة تضارع النحات المصري القديم علي جدارياته في المعبد القديم.. سليمة حفيدة 'أبي جعفر' الوّراق.. التي عشقت الكتب والعلم والمعرفة.. فصارت الهدف الأول والأساسي لنيران الغزاة القشتاليين -الإسبان- وتهمهم ولهذا أضافوا لتهمة الهرطقة.. تهمة أبشع السحر والشعوذة.. وكأن ذاك الاستعمار القديم والحديث معًا يقف بالمرصاد ضد العقل والحكمة.. ويحول أصحابه إلي أعداء ومشعوذين ليتخلص منهم.. الوجه الآخر 'مريمة' تقول عن نفسها 'إنها مريمة ابنة أبي إبراهيم منشد سيرة نبيك الكريم، ولدت يوم كان القشتاليون علي أبواب غرناطة.. يحكمون الطوق عليها.. الناس جوعي الزاد شحيح.. ما مرقت يومًا، وما خنت يوما أمانة، وما كذبت، فلماذا تلوح لي بنصرة في المنام أتعلق بها.. ثم تسقطه فأعيش بدلًا من الحسرة الواحدة حسرتين!! إن نموذج 'مريمة' يُعد من النماذج الفريدة.. فهي امرأة بسيطة.. تتمتع بذكاء موفور وحيلة بارعة، وحجة ساطعة.. تتحايل علي العيش في ظل استعمار لا يرحم تشق طريقها وتربي أجيالًا.. إنها تقاوم وتتمسك بثقافتها ودينها وعاداتها.. رغم كل الممنوعات المسلطة علي الرقاب من إلغاء للشخصية إلي نفي العقيدة واستبدالها إلي تشوش الفكر.. لكنها تصر علي المقاومة للرمق الأخير.. وعندما تموت في قافلة الرحيل يضمها صدر حفيدها الشاب 'علي'.. ويضعها في قبر.. يتحول عنوانه لا وحشة في قبر مريمة.. حقًا لا وحشة في إبداع 'رضوي'.. فهو باق ما بقيت الذاكرة المصرية والعربية عفية، وعصية علي الاتباع والتبعية.