'ماذا حدث للمصريين؟!'.. إنه عنوان كتاب قديم ومهم للدكتور 'جلال أمين' يرصد فيه المتغيرات التي ألمت بالشخصية المصرية عبر عقود عديدة مضت.. لكنه أيضًا يصلح عنوانًا ممتدًا، يتساءل عما نحن فيه من متغيرات ثقافية، وفكرية، تستوجب الوقوف حيالها، وتحليلها بدقة وأمانة.. حتي نتجاوز خط الخطر، أو الفقر الثقافي العام الذي نعانيه، ونكابده جميعًا. وفي سياق المتغيرات التي ألمت بالشخصية المصرية. توقفت أمام فكرة مهمة وبليغة.. كان قد ساقها د.جلال أمين.. منذ سنوات في أحد مقالاته في مجلة 'وجهات نظر'.. والفكرة تتلخص في أن الأجيال الثقافية المتعاقبة منذ بدايات القرن العشرين.. وربما حتي الوقت الحالي.. تشي بأن جيل الإسلاف ثم الأجداد ثم الآباء.. كان أكثر ثقافة، وسعة اطلاع، وعمق، وموسوعية أي 'تنوع' عنه في الجيل الذي يعقبه.. وكأننا حيال عد تنازلي في العمق.. أما من جهة الاتساع الأفقي فكما يقول المثل العدد في الليمون!! لقد انكب الأجداد علي الأصول مخلصين لها، ينهلون من المنابع دون وسائط تذكر.. وزادهم أنهم تبحروا في علوم شتي بالقدر نفسه.. بحيث رأينا منجزات 'ابن سينا' في الطب والفلسفة.. وربما بنفس القدر مع 'ابن رشد' ولهذا كلما اقتربنا في الزمن من واقعنا المعاصر.. نري أجيالاً تتخفف من البحث في الأصول، ومن الأحمال الثقيلة، والتبحر في العلوم والآداب.. وتكتفي بالفروع.. وربما بفرع واحد من المعرفة تتخصص فيه.. وتري فيه تمام المعرفة!! علي أن هنا، واقعة.. قرأتها منذ بضع سنين.. وقد أذهلتني.. وهي لا تؤكد فقط أننا حيال العد التنازلي.. وإنما نضيف فوقه تسطح النظرة للبحث الأدبي الذي لا يفترق عن البحث العلمي.. وكأن البحث ما هو إلا نوع من أنواع القرنصة!! لا يخضع لشروط معرفية محددة وواجبة.. علي أي حال.. الواقعة تتحدد.. بعد أن خرج إلي الأسواق كتاب يتحدث في التاريخ وهو يأخذ حقبة ثورة يوليو.. فما كان من أحد القراء وهو باحث جاد في التاريخ.. ومهموم بالشأن العام كما عرف نفسه في الرسالة التي قرأتها.. إلا أن بعث برسالة نقدية للمؤلف يطالبه فيها بذكر المراجع التي اعتمد عليها في توثيق وجهة نظره. فما كان من المؤلف إلا أن رد عليه في عبارة موجزة: هل أنا عبيط حتي أذكر لك الكتب التي اعتمدت عليها.. حتي ترجع أنت إليها وتكتب بدورك كتابًا ينافس كتابي؟! وقد فات هذا المؤلف 'السريع' التأليف والرد أيضا.. أن ألف باء البحث العلمي المدقق هو ذكر المراجع.. بل قصاصات الصحف إذا أمكن. وقد يسأل سائل: لماذا هذا السرد الطويل؟ هل هو من قبيل البرهنة علي الفقر الثقافي العام، الذي حدثنا عنه د.يوسف إدريس 'رحمه الله' منذ عقود عديدة، أم أنه نوع من استنهاض الهمم، بعد أن توفرت نوايا جادة، وإرادة سياسية تعلن بملء فيها الرغبة الحقيقية في الارتقاء بالثقافة وبالمثقف والمواطن البسيط؟! وهي تعترف بأن 'القوي الناعمة' هي القادرة علي إعادة البناء والتصحيح يبدأ بمحو الغشاوة العقلية التي رانت علي العقول وعلي التعليم عقودًا طويلة.. فأنبتت في الساحة الاجتماعية أفكارًا شيطانية، وظلامية تكفيرية.. ولكي نواجهها ونمحوها.. ليست بالسياسات الأمنية وحدها.. وإنما بالانطلاقة الجادة والمخلصة للأفكار الوسطية، والتنويرية التي تهدف إلي العدل والحرية والمساواة.. فهي القادرة علي إزاحة هذا التطرف الذي سكن العقول وعشش فيها فأنجب لها إرهابًا متوحشًا.. يطل علينا من الجهات الأربع. *** نعم لقد سبق لي وتحدثت عن ظاهرة الكتب الأكثر مبيعًا.. best sller والتي أطلقت علي بعض من كتاب الرواية الجدد.. رغم أن تلك الروايات لا تتمتع بمزايا الرواية الجادة، أو بحرفيتها ومهارتها العالية.. كل ما هنالك أنها تعتمد علي الإثارة.. وعلي استخدام مفردات هي أقرب ما تكون إلي 'الروشنة' وهي اللغة التي يعتمدها الشباب من صغار السن والمراهقة! وهي لغة أقرب إلي السوقية منها إلي اللغة العربية ما بين الفصحي والعامية.. وقد تتعامل معها كأنها موضة قابلة للتلاشي والاختفاء.. موضة تأتي وموضة تذهب.. وهي لا تغير في الأمور الثقافية شيئًا.. إن لم تزيدها تعقيدًا وتدهورًا.. خاصة إذا ما عرفنا أن هذه النوعية من الكتب والروايات لم تخاطب بالأساس سوي أولاد الذوات القادرين علي أثمانها المرتفعة أما أولاد الفقراء فلهم رب يحميهم منها!! وعلي نفس خطي 'الموضة' و'الافتكاسات' كما يرددونها اليوم، وهم يقصدون بها الابتكارات.. بالله عليك عزيزي القارئ.. تأمل الفرق بين المفردتين لتعرف إلي أين نحن ذاهبون بلعتنا الجميلة.. قبل ثقافتنا الأصيلة؟! ما علينا.. لقد وقع بصري في إحدي المكتبات.. في أحد المولات.. علي هذا الكتاب 2011 نقطة ومن أول السطر.. لمؤلفه خالد الخميسي.. قد استرعي انتباهي من غلافه الذي ازدحم بمجموعة من الصور والرسومات المتجاورة والمتزاحمة وكأنها 'طوابع بريد' في لوحة لونية تشد عيون الصغار.. وربما لهذا كتب علي ظهر الكتاب 'ببساطة'.. وهي سلسلة كتب للجميع تضم نصوصًا ورسومًا متعشقة في بعض، تقدم في كل مرة موضوعات فكرية متنوعة، مكتوبة ومعروضة ببساطة. وإذا كنت لست ضد البساطة.. ولكنني من المؤكد ضد التبسيط المخل.. لأن معناه هو الإقلال من شأن قضية ما أو مشكلة بعينها.. وهو بالضبط ما حدث لي وأنا أتابع قراءة هذا الكتاب منذ الفصل الأول للمؤلف 'خالد الخميسي' الذي ظلت الكاتبة 'صافيناز كاظم' تطارده علي صفحات المجلات حتي ارتأت لنفسها عنوان 'تاكسي الكلام' الذي صكته لنفسها، وكان قد اقتبسه 'خالد' ووضعه عنوانًا لكتابه الشهير والمنتمي أيضًا لما يسمي 'best seller'.. وتحت ضغط المطاردة، و'الزن'.. اكتفي باسم 'تاكسي' وحذف الشق الآخر وهو 'الكلام' في عنوان الكتاب! عمومًا نحن بصدد كتاب 2011.. والذي هو أقرب إلي مجلة ميكي للأطفال أو 'ماجد' في عصرها الذهبي.. فهو أقرب إلي القصص المرسومة أو بالأحري الأسئلة المرسومة.. رسوم 'عفت'.. أما الغلاف فهو من تصميم 'أحمد عاطف' ولابد في هذا السياق أن نتوقف أمام سعر الكتاب المرتفع 25 جنيهًا.. والذي يحدد نوعية القارئ.. والذي بالضرورة من أولاد الذوات.. أو ممن يبحثون عن 'موضة' جديدة.. بعد أن سأموا لبعض الوقت اللعب علي 'الفيس بوك و'اللاب توب'.. وقد تخطفه المعلومات السريعة التي تشبه 'الوجبات السريعة' التي اعتاد عليها وهو يتابع الكمبيوتر!! أما القارئ الفقير.. فهو بعيد عنه.. بعده عن الكمبيوتر والانترنت في آن. وإذا كان 'الخميسي' وهو يعرف بالسلسلة الجريدة 'ببساطة' وبمؤسسة زوم الثقافية التي تتولي النشر.. فإن الكتاب يهدف لمخاطبة نوعية معينة لارتفاع ثمنه علي جانب.. أما الآخر فقد اعتمد المؤلف علي أن يخاطب جميع الأعمار.. الأمر الذي ذكرني وأنا أقرأ مجلة الأطفال من '8: 80'!! ربما من هنا يأتي الخلل الواضح.. في أن البساطة التي ينشدها المؤلف.. تتحول وفصول الكتاب الثلاثة إلي تبسيط مخل.. للأفكار التي يتناولها.. وللأحداث التي يتوقف حيالها.. وهو يتقافز عليها كالعصفور الذي يتقافز علي أشجار عديدة مثمرة.. يقضم من كل واحدة جزءًا من ثمرة.. وسرعان ما يتركها ويتحول إلي الأخري.. أما نحن القراء.. فقد نشاهد أجزاء من ثمرة قد تكون طازجة.. أو معطوبة.. لكن في كل الأحوال هي جزء!! ولهذا نحن نتلامس مع بعض من الحقائق، بعض من المعلومات، أجزاء من التاريخ بطريقة انتقائية.. فنشعر وكأننا أمام أوراق تتطاير كأوراق الخريف.. مخلفة وراءها أرضًا عطشي لم ترو بعد بنبع الثقافة العميق، والبسيط، والرائق.. وعلي سبيل المثال أتوقف أمام الفصل الأول الذي لم يمنحه عنوانًا.. فهل هو نوع من المراوغة.. خاصة أنه يتساءل عن الثورة والاحتجاجات في 2011؟! وهو يقول عنه عام الأسئلة.. ولهذا يظل يسرد إجابات شتي ومراوغة.. لكن الحقيقة المؤكدة أن ثورة 2011 لم تكن أسئلة وبعض أجوبة فقط.. وإنما كانت رغبة شعبية قوية وعارمة لتغيير نظام بأكمله. وخلاصة الأمر.. إن الأمانة تقتضي منا أن نؤكد أن أنصاف الاجابات تؤدي بنا في النهاية إلي قلب الحقائق في كثير من الأحيان! وتؤدي بنا إلي هشاشة في الفكر.. قبل أن تتحول هشاشة في الوعي.. أو ليست هذه هي نفسها الأمراض التي تأتي من جراء كل 'الوجبات السريعة'؟! تلك الوجبات التي غزتنا في ظل العولمة الكاسحة التي تحمل في حياتنا أكثر من وجه.. ولهذا علينا أن نحدد ملامح طريقنا الثقافي بإخلاص، وبدقة وبوعي شديد.