لقد افتقدنا ثقافة المواطنة، بينما بات مفهوم المواطنة في الوقت الراهن، وبعد تطور علي مدار القرنين المنصرمين، تقوم علي مبادئ متعددة وكثيرة، في مقدمتها، تساوي الأشخاص المنتمين إلي أوطانهم في الحقوق، والواجبات، بغض النظر عن العرق، أو الدين، أو اللون، أو اللغة، أو النوع، أو الطبقية. وأساس هذه الحقوق السياسية تتمثل في المشاركة في البرلمان من خلال الحق في الانتخاب والترشح. أما ثقافة الدين فأصبح من المألوف لدينا أنه لابد من حتمية ظهور مذاهب وفرق وجماعات، في جميع الديانات، كنتيجة حتمية للثوابت القديمة، والمستجدات الحديثة، وحدوث الخلاف في الرأي، والاختلاف في الفكر، والمنهج، والعقيدة، والاجتهاد بين الأئمة والفقهاء، والخلاف بين العلماء، والإختلاف في بيئات وأماكن وثقافات الشعوب، التي تعتنق هذه الأديان. وبالطبع هي شكل من أشكال التعددية في المواطنة والدين، في جميع المجتمعات البشرية. والإسلام لم يستثن من ذلك، بل هو أقل الديانات انقساماً، خلافا واختلافاً، مقارنة بالأديان الأخري. والدليل علي ذلك أن جميع الطوائف الإسلامية تؤمن بإله واحد، وكتاب واحد، ونبي واحد، وقبلة واحدة، وطقوس واحدة، ويتفقون في جميع أساسيات الدين، ويختلفون في بعض الفروع. والاختلاف مسألة طبيعية وسنة من سنن الحياة، فقال تعالي: 'ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين' وقال الرسول 'صلي الله عليه وسلم': 'اختلاف أمتي رحمة'. وقال تعالي: 'لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلي الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'. ومن هذا الحديث النبوي، وهذه الآيات القرآنية، نفهم أن ثقافة الخلاف والاختلاف لحكمة ربانية، وأن الله وحده فقط سيحاسب المخطئ، وليس من الطبيعي في المسائل الدينية، أن يحاسب البشر بعضهم بعضا، وليس من حق أي إنسان تكفير الآخر علي هذا الاختلاف، كما يفعل الإخوان والسلفيون وغيرهم، ورمي التهم والتكفيرات جزافا دون النظر الي جوهر الدين. وأحد أمثلة هذا الخلاف والإختلاف بين المسلمين، يتضح جليا فيما حدث بين 'المهاجرين والأنصار' ولأول مرة بعد وفاة حضرة النبي 'صلي الله عليه وسلم' مباشرة وفي نفس الساعة، حيث أنه لقي ربه قبل أن يوصي بالخلافة لأحد من بعده. 'فقال قوم إن أحق الناس بالخلافة أبو بكر، لأن رسول الله، رضيه لأمر الدين بإمامة المسلمين في الصلاة، فليرضوه هم في أمر الدنيا، أي الخلافة. وقال آخرون: أحق الناس بالخلافة أهل بيته، علي بن أبي طالب، ومن وجهة خلافية ثالثة قال قوم: إن أحق الناس بها المهاجرون الأولون من قريش، وقالت فئة رابعة: إن أحق الناس بها هم الأنصار. يجب إعطاء صورة مستفيضة لتوضيح الخلاف والإختلاف، الذي شق صف المسلمين، نظراً لأهمية هذا الموضوع، الذي مازال أثره العميق باقيا، ً منذ وفاة حضرة النبي وحتي الآن. فعن ابن عباس أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، خرج من عند رسول الله 'صلي الله عليه وسلم' في مرضه الأخير الذي توفي فيه، فقال له الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب، فقال: إني أري رسول الله سيتوفي في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلي رسول الله، فسله فيمن يكون هذا الأمر؟ يقصد أمر الخلافة، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصي بنا. قال عليٌّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله أبداً. ولما انتقل الرسول الي جوار ربه، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، إن النبي 'صلي الله عليه وسلم' جاءه قوم فقالوا: أبعث معنا أمينا، فقال: لأبعثن معكم أميناً حق أمين، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وأنا أرضي لكم أبا عبيدة. فقام عمر، فقال: أيكم تطيب نفسه أن يخلُف قدمين قدَّمهما النبي 'صلي الله عليه وسلم'! فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار: 'أو بعض الأنصار' لا نبايع إلا عليّاً. ولا بد أن نسأل أبا سفيان عن مهارة الفتنة، والوقيعة، وزرع ثقافة الخلاف، والصيد في الماء العكر، عندما أقبل أبو سفيان إلي علي بن أبي طالب، أثناء اجتماع الناس علي بيعة أبي بكر وهو يقول: والله إني لأري عجاجة لا يطفئها إلا الدم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان الأذلان عليّ والعباس؟ وقال: أبا حسن! أبسط يدك حتي أبايعك. فزجره عليُّ، وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا، لا حاجة لنا في نصيحتك. ولقوله تعالي: 'وشاورهم في الأمر'، كان حضرة النبي 'صلي الله عليه وسلم' يشاور المسلمين في معظم الأمور، ولكن النبي لم يترك قاعدة واحدة، أو تلميحا واضحا، وثابتا، لاختيار الخليفة من بعده، وترك الأمر معلقا مفتوحا. لأنه لو وضع قاعدة أو أمرا لاتخذه المسلمون ديناً يتحجرون عليه. فلما مات حضرة النبي، حدث بالفعل هذا الخلاف والاختلاف، فبايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس من بعده، وكانت هذه مخالفة صريحة لأمر الشوري، لذلك قال عمر: إنه خطأ وقي الله المسلمين شره، لأن عمر لو استشار كبار الصحابة، لحمده البعض، وخاف البعض من شدته، فقال أبو بكر إنه يراني ألين فيشتد.أرجو أن نتمعن قول الله تعالي: 'لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون'.