أربعون عاما مضت، ولا تزال ذكراه في القلوب والعقول رغم حملات التشويه المنظمة التي يتعرض لها سواء في الداخل أو في الخارج، صورته محفورة في قلوب من عاصروه من الآباء والشيوخ، والحنين إليه يغمرهم كلما تعرضت مصر لأزمة، هؤلاء الذين عاش الرجل ومات من أجلهم. صحيح أن ما نادي به وطبقه طوال سنوات حكمه لمصرتم الانقلاب عليه تمامًا.. وصحيح أن مصر اليوم بقيادتها الحالية تتعمد بمناسبة وبدون مناسبة إعلان تخليها عن كل ما يمت للرجل بصلة، ولكن حنين البسطاء الذين عاش ومات من أجلهم تكشف إلي أي مدي كان الزعيم يعيش في قلوب المصريين وكيف غيّر وجه مصر كما عايشها هؤلاء، وادخلها القرن العشرين بوصفها واحدة من الدول التي أسهمت في تغيير وجه التاريخ في القرن الماضي. لم تكن تلك المكانة التي احتلتها مصر عن جدارة نتيجة للموقع وحده، وإنما للدور المحوري الذي تبناه عبد الناصر في صنع السياسة الدولية بحيث امتد تأثير مصر ليتعدي الحدود الإقليمية من شرق العالم إلي غربه ومن جنوبه إلي شماله ، وحافظ علي تلك المكانة حتي وفاته علي الصعيد العربي والإفريقي وبين دول العالم الثالث وحركة عدم الانحياز، تلك السياسة التي وضعت مصر بسياستها الخارجية النشطة في مصاف الدول ألكبري، وهي قطعًا لم تأت من فراغ. ولعل شهادة الخصوم هي ابلغ دليل علي حجم تأثير ومكانة الدور الذي لعبه عبد الناصر في تغيير وجه مصر بانحيازه للفقراء وهم الغالبية العظمي من شعب مصر وليس للمحتكرين أو رجال الأعمال أو ناهبي قوت الشعب وبائعي القطاع العام وتحويله الي عزبة خاصة للمحاسيب وأصحاب الحظوة ، او في الخارج عبر النفوذ الذي كان للدولة المصرية في محيطها العربي أو الإفريقي أو لدي دول العالم الثالث ولدي القطبين الكبيرين في ذلك الوقت الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي. في العام الماضي أعدت مجلة نيوزويك أكثر المجلات الأمريكية انتشارًا تقريرًا تحت عنوان ‘المصلحون عشرة.. زعماء غيروا العالم' واعتبرت المجلة جمال عبد الناصر أحد هؤلاء الزعماء في القرن العشرين وقالت المجلة انه بعد أن أطاح ناصر وهو في الرابعة والثلاثين بالحكم الملكي، بدأ برنامج تحديث سريع لاقتصاد مصر بما في ذلك بناء سد أسوان السد العالي، وقالت المجلة انه رغم الاعتداء البريطاني الفرنسي الإسرائيلي ‘عدوان 1956' الذي كان ناجحًا من الناحية العسكرية، إلا أن عبد الناصر استطاع تحويل الرأي العام العالمي بما فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي وحركة عدم الانحياز الي صالحه، واستطاع عبر الدبلوماسية قلب نتائج هذا الاعتداء لصالح بلاده بجدارة. واستفاد من تأميم قناة السويس عبر استخدام دخلها في تمويل بناء السد العالي. وقالت المجلة ان ناصر حوّل نفسه بعد ذلك الي حامل لواء القومية العربية والوحدة العربية وصنع فيما بعد مصطلح الاشتراكية العربية التي تعني تبني الافكار الاجتماعية في الثقافة العربية عبر الانحياز للفقراء من جموع الشعب العربي. تلك الاشتراكية العربية التي قالت عنها مجلة التايم الأمريكية حين اطلاقها في تقرير لها في الاول من يونيو عام 1962 ان جمال عبد الناصر حاكم مصر ارتكز علي شعار اشتراكية العرب، ملوحا بهذا المصطلح بمصادرة الملكيات الخاصة الاحتكارية وقيادة التغيير في الأنظمة العربية الرجعية. وتقول الصحيفة وقتها ان عبد الناصر شرح في مايو 1962 معني الاشتراكية العربية ، ففي قاعة الاحتفالات الكبري بجامعة القاهرة واجه ناصر حوالي 2000 شخص حضروا أولي جلسات المجلس القومي لقوي الشعب العامل التي كلفت بكتابة دستور جديد للبلاد. حيث ابتسم ناصر للحاضرين وانتقل الي خطاب استمر خمس ساعات حتي منتصف الليل وكانت اهم عناوين الخطاب ان الدولة التي استغلت الفلاحين والعمال طويلا يجب ان تحقق لهم تمثيلاً سياسيا عادلاً، وان تأميم الصناعات الاساسية سيستمر وأن ضرب الاحتكار بيد من حديد هو أولي مهام حكومته وان برنامج الرفاهية الاجتماعية يهدف الي تحسين معيشة الملايين من المصريين وليس أصحاب الثروات ذوي الياقات البيضاء أولئك الذين يجنون ثمار تعب الآخرين ويتاجرون في عرق ودماء الغلابة. وأعلن ناصر في نهاية خطابه مصطلح الحرية الاجتماعية المرتكزة علي حرية رغيف الخبز أولا. وتقول التايم الأمريكية وقتها انه بالنسبة لقضايا عديدة فان برنامج ناصر السياسي والاجتماعي يتميز بوسطية جديدة بين الرأسمالية والشيوعية حيث تعهد بالسماح بامتلاك مائة فدان وبالأعمال الحرة الصغيرة والمتوسطة وابقي علي الصناعات الإستراتيجية ألكبري في يد الدولة حتي يجنب بلاده الاحتكار مخيبًا بذلك آمال موسكو بارتكاز أفكاره علي الصراع الطبقي لأنه يؤدي إلي سفك الدماء وقال ناصر أن الخبرات الاجتماعية قادرة علي الانتقال من مكان إلي آخر مضيفًا ولكن لا يمكن تقليدها تقليدًا اعمي. هكذا كانت رؤية عبد الناصر لشعب مصر، وهو الانحياز الأول والأخير لفقراء الشعب المصري لفلاحيها وعمالها، وليس لأصحاب الثروات وناهبي قوت الشعب والهاربين بأموال البنوك ومحتكري الثروات كان انحيازه للصناعة الوطنية وبناء المدارس والمستشفيات والمدن الجديدة واستصلاح الأراضي، كان انحيازا لتمويل الدول، مساندتها للصناعات ألكبري في حلوان ونجع حمادي ومديرية التحرير، كان همه بناء مجمع للخدمات في كل قرية يضم مدرسة ومستشفي ومكتب بريد وسنترالاً حيث وضعت خطة من حينه لبناء هذا المجمع يوميًا. فهل مازال وجه مصر كما تركها عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970 أم أن الأحوال تبدلت ووصلت بنا الي ما كنا عليه ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952؟! وهل مصر مازالت لفلاحيها وعمالها وبقية أبناء الشعب، أم هي مصر رجال الأعمال ومحتكري الحديد والاسمنت وقوت الشعب؟! رحم الله جمال عبد الناصر. [email protected]