'أدعو القائمين علي الحكم الآن في مصر إلي عدم الثقة في التصريحات الوردية التي يطلقها مسئولو الإدارة الأمريكية عن الأوضاع التي تشهدها المدن المصرية، فإدارة أوباما لن تتخلي عن دعمها للإخوان الآن علي الأقل، فكل ما يدلي به هؤلاء المسئولون عن دعمهم لما يسمي بخارطة الطريق والاستقرار في مصر هو زيف وغير حقيقي'. بهذه الكلمات نصح المفكر الأمريكي الكبير وفيلسوف التحليل السياسي ناعوم تشومسكي الفريق أول عبد الفتاح السيسي والحكومة المصرية ودعاهم إلي عدم الإفراط في التفاؤل جراء تصريحات كيري وهاجل وآخرين من مسئولي الإدارة الأمريكية، وعلي الرغم من أن تشومسكي له رأي مضاد لتدخل المؤسسات العسكرية في الحكم حتي لو كان ذلك بتأييد شعبي، إلا أنه لم يقلل مما حدث في 30 يونية، ودعا في النهاية لأن تكون السلطة للشعب المصري وحده، ودعا المسئولين المصريين إلي توخي الحذر في التعامل مع الأجندة السياسية الأمريكية، لأنه علي يقين بمحددات المشروع الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط، وكثيرًا ما انتقد الرجل الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي قال عنها إنها تستغل طموح الشعوب الشرق أوسطية لتحقيق الديمقراطية لتأمين مصالحها الامبريالية. ومن الواضح أن كلام المفكر الأمريكي ينطبق تمامًا علي سياسة العصا والجزرة التي تتبعها الإدارة الأمريكية مع مصر منذ اندلاع ثورة 30 يونية التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية وأداتها لهدم الاستقرار في الشرق الأوسط ووسيلتها لتحقيق أفكار كونداليزا رايس عن الفوضي الخلاقة.. ففي البداية تحفظت واشنطن علي ما جري في مصر في هذا التاريخ، بل علي العكس بدأت الإدارة الأمريكية في مراقبة الوضع كعادتها في البداية، ثم تلي ذلك سيل من الانتقادات من قِبل بعض أعضاء من الكونجرس عما حدث في مصر وكان هذا طبيعيًا وقتها نظرًا لأن مصدر معلومات هؤلاء بالطبع هو قناة 'سي إن إن' المرتبطة 'عاطفيًا' بشبكة الجزيرة خاصة، الناطقة بالانجليزية، وفوكس نيوز وغيرها من المحطات المتفاعلة سياسيًا ولوجيستيًا مع توجهات السياسة الأمريكية في المنطقة. وبعد ان انكشفت الأمور وأصبح واضحًا للجميع أن ما حدث في مصر هو ثورة شعبية بامتياز، بدأت حدة الانتقادات الأمريكية لمصر تقل مع الحفاظ علي عدم وصف ما حدث بأنه إنقلاب عسكري، وهو الثابت الرئيسي وشعرة معاوية التي حرصت واشنطن علي بقائها مع القاهرة وأوفد الرئيس الأمريكي خصمه في الانتخابات والسيناتور اليميني الجمهوري المتطرف صديق خيرت الشاطر جون ماكين لعل وعسي أن يجد مخرجًا لتعامل الإدارة الأمريكية مع ما حدث.. وعلي الرغم من أن ماكين تعامل بصلف وقلة أدب مع مصر إلا أن ذلك كان رد فعل لما لقيه من إصرار وحسم من المسئولين المصريين خاصة الفريق السيسي الذي شدد علي أن مصر ماضية في طريقها لتحقيق مصالحها دون النظر إلي مصالح الآخرين، وهو ما أدي إلي أن يعود ماكين إلي واشنطن بخفي حُنين وشنَّ حربًا علي مصر في الكونجرس استجابة لرغبة صديقه الشاطر الذي ساعده من قبل في الافراج عن المتهمين فيما عُرف إعلاميًا بقضية مؤسسات المجتمع المدني فأراد أن يرد له الجميل.. لكن مع الوقت بدا أن تصريحات ماكين عن مصر أزعجت الإدارة الامريكية وأربكت خططها، وهو ما يؤكد الشائعات التي ترددت عن أن البيت الأبيض طلب من السيناتور الجمهوري عدم الإدلاء بتصريحات تخص مصر إلي أن تحسم إدارة أوباما أمرها مما حدث بشكل نهائي.. لكن الرئيس استجاب للحملة التي شنّها أعضاء جمهوريون في الكونجرس مدفوعون من ماكين وآخرين أمثال جون كارسون مهندس العلاقات الأمريكية الإخوانية وأوقف أوباما مساعدات عسكرية إلي مصر، لكن رد الفعل المصري كان حادًا لدرجة أدهشت الأمريكيين، فلم تهتم مصر بالإجراء الأمريكي واتجهت شرقًا إلي روسيا لتنويع مصادر سلاحها وتأمين احتياجاتها العسكرية. ورأت الولاياتالمتحدة فيما بعد تفويض وزيري الخارجية جون كيري والدفاع تشاك هاجل في التعامل مع الملف المصري، فاتبع الاثنان سياسة العصا والجزرة مع مصر، فالأول كان يستعمل الجزرة فبدا ودودًا حريصًا علي وصف ما حدث في مصر علي انه ثورة شعبية واعتاد أن يكيل الاتهامات إلي الرئيس المعزول محمد مرسي بأنه لم يستطع إدارة الامور في بلد كبير مثل مصر، بل ذهب إلي اتهام الإخوان بسرقة الثورة المصرية، وقال إن الشباب المصري لم يقم بثورته ويضحي بحياته لينعم الشعب بالاستقرار حتي يأتي الإخوان ليسقط ثورته. وأثناء لقائه وزير الخارجية نبيل فهمي في نوفمبر الماضي أشار كيري إلي أن بلاده ستواصل دعمها للحكومة المصرية علي الأصعدة كافة، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب، ولفت إلي أن مصر ستظل مصر شريكًا حيويًا لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا. وأكد الوزير الأمريكي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع فهمي وقتها، أن وقف المساعدات الأمريكية لمصر ليس عقابا، بل إنه إنعكاس لبعض السياسات.. مشيرًا إلي أن إدارة البيت الأبيض لا تريد حصر العلاقة مع القاهرة في دائرة المساعدات العسكرية، بل ستستمر مساعدتها لمصر في قطاعات الصحة والتعليم وشدد علي أن الرئيس أوباما يدعم طموحات الشعب المصري للتغيير، وندد بكافة أشكال العنف التي طالت الكنائس وقوات الأمن بسيناء وقتها. أما الوزير الآخر الذي ينتمي سياسيًا إلي المدرسة الاستعلائية الأمريكية في السياسة فقد تبني هو الآخر سياسة العصا، فما نفكَّ هاجل يردد كلام لا يستحق عناء الرد عليه من نوع المصالحة الواجبة بين طوائف الشعب المصري والتي لا بديل عنها للاستقرار وبدا مدافعًا عن مستقبل الإخوان عندما عبَّر عما أسماه 'قلق بلاده تجاه المحاكمات السياسية للمسجونين من قيادات الجماعة'، رغم أنه يعلم أكثر من غيره أن هؤلاء ارتكبوا جرائم جنائية وليست سياسية يستحقون عليها الإعدام. وأخيرًا جاءت آخر هرطقات هاجل من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مؤخرًا في مقر وزارة الدفاع، وتحدث فيه عما جري علي الهاتف مع الفريق السيسي وقال في المؤتمر ربما كلامًا لم يقله أثناء المحادثة الهاتفية، وقال هاجل إنه اتصل بالسيسي للمرة الثلاثين 'ولا يعرف لماذا أصر علي أن يكون دقيقًا في العدد، ويذكر المرة الثلاثين ربما للتعبير عن غضبه من رد الفعل الذي كان يلقاه دائمًا في المرات التسع والعشرين الماضية من الفريق السيسي'، وأشار إلي أن ذلك بدأ منذ الثالث منذ يوليو الماضي، ولفت إلي أنه ناقش معه الاتهامات الأخيرة الموجهة إلي مرسي بالتخابر مع حركة 'حماس'، رافضًا ذكر ما ناقشه مع السيسي فيما يتعلق بالشقِّ القضائي وطبيعة الاتهامات 'لاحظ أن المدرسة الأمريكية التي ينتمي إليها هاجل يرفض أعضاؤها الإفصاح عن رد فعل الطرف الآخر إذا لم يأت علي هوي من يحدِّثه فإذا كان الوزير الأمريكي رفض الحديث عن رد فعل وزير الدفاع المصري عن طبيعة هذه الاتهامات فمن المؤكد أنه لقي ما يستحق من رد فعل يناسب ما قاله من تدخل في الشأن المصري فلم يشأ إعلانه أمام الصحفيين'.. وتمادي هاجل في تحديه لإرادة الشعب المصري وقال في المؤتمر الذي نقله عدد من القنوات الناطقة بالإنجليزية: 'ما أقدمت عليه الحكومة المصرية من توجيه اتهامات للرئيس المعزول، لا يقرب الشعب من بعضه البعض، ويزيد من احتقان جميع الأطراف'.. وتقلص في وقفته متقمصًا شخصية جون واين ملك أفلام الويسترن الأمريكية وقال: 'قلت للسيسي إن الولاياتالمتحدة عينها عليكم، وهذا النوع من التطورات يعود بمصر خطوات للوراء ومرة أخري لم يذكر الوزير الأمريكي رد فعل الفريق السيسي علي كلامه، خاصة أن الأعراف البروتوكولية تسمح لأي مسئول بأن يبدي من الكلام ما يعبر به عن رد فعل الطرف الآخر، مثلا 'وقد أبدي الفريق السيسي تفهما' إلي آخره.. إلا أن هاجل لم يذكر أي إشارة علي رد فعل السيسي، مما يؤكد مجددًا أنه نال ما يستحق. وأمام لعب الوزيرين الأمريكيين مع مصر بالعصا والجزرة خرج علينا مَن يتحدث عن أن انفلات هاجل مجددًا تجاه مصر جاء استمرارًا لدعم بلاده للإخوان المسلمين حتي آخر نفس 'وهو ما أكده تشومسكي سلفا، وأن هذا الكلام بمثابة شفرة داعمة للإرهاب الذي تنتوي الجماعة نشره لإفساد الاستفتاء علي الدستور في الرابع عشر والخامس عشر من يناير المقبل، خاصة أن واشنطن لم تعلق علي إرهاب الجماعة وأعضائها في الشوارع والجامعات. وأمام الرقص الأمريكي علي السلم طالبت مصر مرارًا وتكرارًا الإدارة الأمريكية بحسم أمرها تجاهها، إلا أن الأخيرة مستمرة في دبلوماسية العصا والجزرة التي لا تُعيرها مصر أي اهتمام.. فالشيء المؤكد أن الولاياتالمتحدة هي من يحتاج إلي مصر وليس العكس والدليل علي ذلك أننا سنري من المسئولين الأمريكيين 'ربما كيري مثلا أو غيره' مَن يخرج قريبًا وقبل بدء التصويت علي الاستفتاء ليقلل من تصريحات هاجل ويدَّعي دعم الحكومة المصرية ضد الإرهاب.. فهذه هي السياسة الأمريكية الملتوية التي يجب الا تلتفت مصر إليها لا الآن ولا لاحقًا.