عادت مصر من جديد تمارس هوايتها في كسر أنوف الطغاة والمتجبرين.. مصر التي كانت بمثابة حجر الزاوية في 'مشروع الشرق الأوسط الجديد' بعد وصول الإخوان إلي الحكم.. وكانت بوابة الدخول الرحبة التي عبرت من خلالها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي الوطن العربي بعد اتفاقية 'كامب ديفيد'، ستكون فيما يبدو بوابة الخروج الكبير ل'واشنطن' من المنطقة، بعد ثورة 30 يونية. لقد تعرض الشعب المصري علي يد الأمريكان والإخوان إلي خديعة كبري بعد ثورة 25 يناير، فرغم ما بذله المصريون من دماء، وما قدموه من تضحيات بحثًا عن الاستقلال الوطني وتحرير الإرادة، وجدوا بلدهم يدور مجددًا في فلك الاستراتيجية الأمريكية.. لنكتشف أننا خرجنا من حظيرة البيت الأبيض من باب، وعدنا إليها عبر باب آخر!!!. لكن المصريين وعوا الدرس جيدًا، وأدركوا أن معركتهم الحقيقية يجب أن تكون في مواجهة الولاياتالمتحدة.. بعد أن أصبح واضحًا أن صعود الجماعة إلي الحكم لم يكن سوي عملية إحلال وتجديد أو ترميم نظام مبارك.. استبدال وجوه بأخري مع استمرار السياسات، التي تخدم الأهداف الأمريكية الرامية إلي تقسيم المنطقة علي أسس عِرقية ومذهبية. وعندما خرج الملايين في 30 يونية، لم تكن المسألة مجرد ثورة شعبية ضد نظام حكم الإخوان، أو رئيس فاشل غير مرغوب فيه، وقد كتبت منذ اللحظة الأولي وقلت: 'إن الشعب المصري يخوض معركة الاستقلال الوطني التي سينتج عنها إعادة ترتيب المنطقة العربية من جديد، واسترداد الوطن من براثن التبعية لأمريكا'، وهي المعركة المؤجلة منذ سبعينيات القرن الماضي. ومن ثم فإن زيارة الوفد الروسي رفيع المستوي إلي مصر، ما هي إلا فصل من فصول هذه المعركة، التي من شأنها أن تضع المنطقة بأكملها أمام معادلة إقليمية جديدة، لا تكون فيها الولاياتالمتحدة كما كانت الفاعل الرئيسي، أو الحاكم بأمره، أو كلمة السر في الشرق الأوسط. لقد كنت أتابع أخبار وتفاصيل زيارة الوفد الشعبي المصري إلي روسيا، وزيارة الوفد الرسمي الروسي إلي مصر، ويرنّ في أذني صوت الرئيس السادات، وهو يقول: '99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا واللي شايف غير كده يخبط دماغه في الحيط'. كنت أقرأ ما تنشره الصحف عن اللقاء الذي دار بين وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو والفريق أول عبد الفتاح السيسي، والمحادثات حول توقيع اتفاقية تعاون مشترك بين القوات المسلحة الروسية والمصرية، وإجراء مناورات عسكرية بين البلدين.. وأستعيد مشاهد توقيع اتفاقية 'كامب ديفيد'، والحرب الأمريكية علي العراق، وسقوط بغداد وإعدام صدام حسين، واتفاقية أوسلو ومؤتمر مدريد. كنت أستمع لتحليلات السياسيين عن التقارب المصري الروسي وتصريحات سيرجي لافروف ونبيل فهمي وزيري خارجية البلدين وأتذكر ملايين المصريين الذين خرجوا إلي الشوارع يرفعون صور محمد بديع إلي جوار مرسي وبينهما أوباما باللحية، ويهتفون: 'يسقط حكم المرشد'.. 'تسقط أمريكا وكلاب أمريكا'.. ويرفعون صور عبد الناصر ويرددون الهتافات المعادية للولايات المتحدة وعملائها والكيان الصهيوني وأصدقائه 'الأغاوات'. كنت أرصد ردود الفعل الأمريكية والصهيونية علي زيارة الوفد الروسي، وأتذكر ردود الفعل الغربية والضغوط الدولية التي راحت تمارسها إدارة أوباما وحلفاؤها ضد مصر بعد عزل مرسي، وأفهم لماذا كانت الاستماتة الأمريكية في الدفاع عن بقاء الجماعة. لقد حاول الإخوان في البداية تصوير ثورة 30 يونية علي أنها مؤامرة حاكها رجال نظام مبارك بدعم أمريكي إسرائيلي!! لإعادة الأوضاع إلي ما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير.. وراحت آلتهم الإعلامية وقناة الجزيرة في مقدمتها تدفع بهذا الاتجاه، لتشويه الثورة الجديدة، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك وزعموا أن الفريق السيسي أوفد البرادعي إلي إسرائيل للترتيب للانقلاب لضرب المشروع الإسلامي!!!. أعرف بالطبع أن هناك من يداعبه حلم العودة بمصر إلي ما قبل ثورة 25 يناير، لكن هؤلاء في تقديري شأنهم شأن الإخوان الذين يحلمون بعودة مرسي إلي الحكم، وكلاهما فلول مبارك والإخوان يعيش في الأحلام، ومصيرهم في النهاية الجلوس إلي جوار الراديو والاستماع إلي رائعة محمد عبد المطلب: 'ودع هواك وانساه وانساني.. عمر اللي فات ما هيرجع تاني'. المهم.. كل المؤشرات كانت تؤكد أن ثورة 30 يونية قامت بالأساس ضد تصاعد نفوذ واشنطن، وفي مواجهة مشروعها الرامي لإعادة تقسيم الوطن العربي، وهو ما أدركته قوي عربية ودولية عديدة منذ البداية. وبدأ الصراع يتبلور في محورين.. الأول: 'أمريكي تركي صهيوني قطري' يحظي برضا أوربي، والثاني: 'مصري سعودي إماراتي' يحظي برضا روسي صيني. وهو ما يفسر الموقف السعودي الخليجي، والرسالة التي وجهها الملك عبد الله إلي الشعب المصري بعد دقائق من بيان الفريق عبد الفتاح السيسي وأكد فيها انحياز بلاده إلي خارطة الطريق، وقال نصًا: 'نشد علي أيدي رجال القوات المسلحة المصرية الذين أخرجوا مصر من نفق يعلم الله أبعاده وتداعياته'.. وهو الموقف الذي اتخذته الإمارات والكويت والبحرين والأردن. الموقف نفسه عبرت عنه روسيا، وأعلن بوتين في 3 يوليو بعد بيان السيسي مباشرة أن بلاده تحذر القوي الغربية من التدخل في الشأن الداخلي المصري لدعم الإخوان مؤكدًا علي ضرورة احترام إرادة المصريين ومشيرًا إلي أن التدخل الغربي قد يجر المنطقة إلي صراعات لا يعرف أحد مداها. ومع تصاعد الضغوط الغربية علي مصر تحركت الدبلوماسية السعودية والإماراتية لمساندة الموقف المصري، وعندما ألغت واشنطن مناورة 'النجم الساطع' وهددت بتعليق المعونة العسكرية، جاء الرد الروسي قويًا.. ودعا بوتين أعضاء الكرملين لعقد جلسة طارئة لبحث تداعيات الموقف في مصر، وإمكانية وضع قدرات الجيش الروسي تحت تصرف القيادة العسكرية المصرية، والبدء في التحضير لمناورة مشتركة مع الجيش المصري. وبعد فض اعتصامي 'رابعة العدوية' و'النهضة' دعت فرنسا وبريطانيا واستراليا وتركيا مجلس الأمن لعقد جلسة مغلقة لمناقشة الأحداث في مصر.. وهو ما واجهته روسيا بقوة وأعلن مندوبها في مجلس الأمن أن بلاده لن تسمح باتخاذ أي إجراء ضد مصر الآن أو مستقبلا، واشترطت روسيا قبل بدء الجلسة عدم إصدار أي بيان من مجلس الأمن كشرط لعقد الجلسة الطارئة. اليوم.. وبقدر ما حققته زيارة الوفد الروسي من نجاحات علي صعيد فكاك مصر من براثن التبعية لأمريكا، بقدر ما يضعنا هذا التقارب أمام تحديات عظيمة يجب أن نعيها وندرك أن الخلاص من 40 عامًا من الدوران في الفلك الأمريكي لن يكون سهلا. لقد باتت أوراق اللعبة مكشوفة، والتصريحات الدبلوماسية تحولت إلي إجراءات، والتقارب المصري الروسي أصبح واقعًا ملموسًا.. وعلينا أن ننتبه جيدًا، فغدًا ستجري في النهر مياه كثيرة، وستحاك المؤامرات لعقاب الجيش المصري الذي أربك التوازنات العالمية والحسابات الغربية في المنطقة.. والتفافنا حول جيشنا العظيم هو سبيلنا لمواجهة أي مخاطر وإفساد أي مؤامرات. محمد محسوب عندما قرأت تدوينة د.محمد محسوب نائب رئيس حزب الوسط التي يستنكر فيها التقارب المصري الروسي، وجدتني أسأل نفسي: هل يشعر الإخوان أو صبيانهم بالخجل؟!!. سبحان مغير الأحوال.. الإخوان وصبيانهم، الذين سلموا أنفسهم وقرارهم وإرادتهم لن أقول لأمريكا لقطر وتركيا، وراحوا يطالبون حلف الناتو بالتدخل لإعادتهم إلي الحكم، يتحدثون الآن عن الاستقلال الوطني!!. لقد كتب محمد محسوب علي صفحته علي 'الفيسبوك' تعليقًا علي زيارة الوفد الروسي: 'الترحيب بزيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين لمصر أملا في أن تسهم الزيارة في تحسين الوضع الدولي للانقلاب ولتعويض النقص في أسلحة مواجهة المظاهرات السلمية بعد تردد أوربا وأمريكا في توريدها'. ومضي محسوب: 'جاء الروس وهم يطمعون في قاعدة عسكرية بأحد المواني المصرية.. والانقلابيون لا يفكرون إلا في ترسيخ وجودهم في الحكم أيا كان الثمن ولو كان استقلال الدولة أو الخصم من السيادة'؟!. السؤال: هل د.محسوب مقتنع حقًا أن بقاء مصر رهينة المعونة العسكرية الأمريكية، وعدم التوجه شرقًا لتنويع مصادر السلاح يخصم من السيادة الوطنية؟!!.. وهل يري أن البقاء في الحظيرة الأمريكية دون خلق توازن في العلاقات مع الدول الكبري، يحقق الاستقلال الوطني؟!!.. أم أنه يعتقد أن مصر ستمنح روسيا قاعدة بحرية في مقابل الحصول علي قنابل مسيلة للدموع وبنادق خرطوش، لمواجهة المظاهرات؟!!. يا د.محسوب.. لا تجعل صراعكم علي كرسي الحكم يدفعك لأن تقول كلامًا ساذجًا ينتقص من قدرك كأستاذ قانون، فحكاية القاعدة العسكرية التي تتحدث عنها دعايات صهيونية هدفها تلويث التقارب المصري الروسي.. ولن يصدقكم أحد، فالجيش المصري الذي رفض وجود قاعدة أمريكية في مصر رغم ما كان لن يقبل بقاعدة روسية.