لا يستطيع أي شخص مُلم بتاريخ منطقتنا العربية السياسي منذ أيام 'سايكس بيكو' وحتي اليوم أن ينكر بأن غالبية هذا التاريخ لم يكن إلا تمثيلية هزلية يصعد للجدية تارة ويهبط للهزلية أكثر تارة أخري. وتخلل هذا التاريخ الطويل بعض اللحظات الوطنية والقومية الصادقة والتي أثرت في بناء وجدان شعوب المنطقة، ولكن للأسف كانت تلك اللحظات كومضات سريعة وقليلة في طريق طويل حالك الظلام وملئ بالحفر. واليوم وبعد تعرض منطقتنا العربية لزلزال التغيير وتوابعه والتي ما زالت مستمرة حتي هذه اللحظة أصبحت تمثيلية الأمس الهزلية عبارة عن فيلم سينمائي طويل وممل بلا طعم أو لون أو رائحة. فأصبحت 'الأنية' السياسية هي القاسم المشترك لكل المشاريع الإستثمارية السياسية في منطقتنا العربية أو ما يُمكن أن يُطلق عليه مجازاً باللهجة المصرية 'السبوبة السياسية' ، وأقرب مثال علي هذا هو ما حدث في مدينة 'الإسماعيلية' ليلة أمس. فقد إتصل بي أول أمس الأستاذ 'علي كامل' أمين عام حزب جبهة التحرير القومية بالإسماعيلية مشكوراً لدعوتي لحضور أول إجتماعات مبادرة 'لم الشمل' والذي إنعقد مساء أمس بمكتبة مصر العامة بالإسماعيلية. تلك المبادرة التي تبناها حزب جبهة التحرير القومية بالإسماعيلية بالتنسيق مع منسق القوي الشعبية لحماية الثورة بالإسماعيلية تحت شعار 'مصر أهم' لمواجهة القوي المضادة للثورة والتي تعمل علي شق الصف. وبطريقتي المعهودة الساخرة رددت عليه مازحاً بأن حضوري لهذا الإجتماع غير مؤكد بسبب 'برودة الجو'، وأن لم أقصد حينها 'برودة الجو' بمعناه المتعارف عليه ولكنني قصدت برودة الجو السياسي في مصر. وقد حضرت مساء أمس هذا الإجتماع وأنا أتوقع عدم نجاحه مسبقاً بسبب 'الزخم الجليدي' القابع بين القوي الحزبية وأيضاً بين القوي والحركات الثورية أفراداً وجماعات. ولكن ما رأيته بالأمس قد فاق كل توقعاتي فعدد من حضروا كان متواضعاً جداً ، وكان الشئ الوحيد الذي توافق عليه كل الحضور هو عدم التوافق، وغالبية الحضور أجمعوا علي أنهم قد تلقوا نصائح مسبقة بعدم الحضور. وبالتأكيد فإنه من حق من تبنوا هذه المبادرة أن نقدم لهم الشكر علي حسهم الوطني وإستشعارهم بخطورة الموقف الراهن، ولكننا نعيب عليهم عدم أخذهم في الإعتبار ظروف المناخ السياسي السيئ الحالي في مصر كلها، وأيضاً نقدم الشكر لمن حضروا لنفس الأسباب. ولكن دعونا يا سادة نواجه الحقائق ولو لمرة واحدة لنخرج أنفسنا من دائرة الحلم اليوطوبي والذي سينتهي بنا إلي كابوس صادم إن لم نفق منه سريعاً. فالسياسة بمعناها الواقعي المختصر هي لعبة رأسمالية مغلفة بهالة إعلامية وهذا هو الحال في أكثر الأنظمة ديكتاتورية أو حتي في أكثرها ديموقراطية، وجاهل هو من يدعي غير ذلك. أما عن 'الشعارات' فهي ليست إلا إحدي الأدوات الإعلامية التي يتم إستخدامها إن كانت النوايا صادقة في بناء الأوطان أو بنوايا كاذبة وخادعة للنصب علي الشعوب. والإشكالية الحقيقية في النهج السياسي حالياً في مصر خاصة وعالمنا العربي عامة أنه أصبح رأسماله وإعلامه هو الشعارات فقط، فالكل يتحدث عن الوطنية وشعاراتها والكل يتحدث عن الثورة وشعاراتها والكل يتحدث عن المواطنة وشعاراتها، ومن المؤكد بأن الشعارات وحدها لا تكفي لإطعام جائع أو لعلاج مريض أو لتعليم جاهل. وقد أعجبني في إجتماع الأمس كلمة لأحد الحضور - وأعتذر لأنني لا أتذكر إسمه - عندما قال: بأن الشعوب لا تتذكر من الحكام إلا من بني فقط حتي وإن كان هناك بعض المآخذ علي أسلوب حكمه'.. وضرب أمثلة علي الشعب المصري بمحمد علي والخديوي سعيد وعبد الناصر. وأكثر ما إستفزني في نفس الإجتماع هو تجاهل غالبية رموز القوي السياسية والثورية في الإسماعيلية له وعدم حضورهم برغم تأكيد أمين عام حزب جبهة التحرير القومية بأنه قد دعاهم وأنهم قد وعدوه بالحضور، وهذا ما يخالف روح التقاليد السياسية ويتنافي مع شعاراتهم الوطنية والتي يتاجرون بها ليل نهار. وبناءاً عليه فنصيحتي للقائمين علي هذه المبادرة بأنه عند دعوتهم للأحزاب والقوي السياسية في الإجتماعات القادمة للمبادرة بأن يتصفوا بأقصي درجات إنكار الذات ويعنونون الدعوة ب 'الناشطة السياسية والثورية والحقوقية صافيناز تدعوكم للم الشمل'.. لأنه من المؤكد حينها بأن جميع القوي السياسية والثورية والشعبية ستحضر ولو زاحفة هذا الإجتماع حتي في أكثر الليالي برودة.. وأنا سأكون أول الحاضرين. أولسنا في زمن صافيناز؟ !!.