علي غرار الأديان التي يستحوذ فيها السدنة علي تصريف شؤون المقدّس، تواجه المسيحية في الغرب، في عصرنا الراهن، جملة من الأسئلة العويصة، ذات طابع لاهوتي وأخلاقي واجتماعي، تسائل واقعها وتستشرف مصائرها. فما فتئ العقل اللاهوتي عرضة للعديد من الأزمات، التي لم يخفّف من وطأتها تدخّل الفاتيكان الثاني '1962-1965' المنعوت بالثورة الكوبرنيكية، بإصلاحاته العاجلة. حيث يستعرض هذا المؤلَّف المترجم من اللغة الإيطالية أوجه تفاعل العقل اللاهوتي مع المسائل المطروحة في العالم المسيحي والوافدة من خارجه، وبالمثل كيفية تلقّيه مختلف القراءات النقدية للنصّ المقدّس. متضمّنا مسألتين محوريتين، تعالج كل منهما، وفق منهج مغاير، مصائر هذا الدين. تتناول الأولي القضايا من منظور فكري، مبرزة الأسئلة التي تستوقف العقل اللاهوتي، في حين تعالج الثانية مختلف القراءات النقدية للعهد الجديد، مبرزة التطورات الحاصلة. إذ تاريخ هذا السفر المقدّس حافل بالمراجعات التي فتحت آفاقا رحبة، وصاغت مقاربات متنوعة ساهمت في بلورة رؤي مستجدّة عن المسيحية. فالحداثة الجامحة ما تركت موضعا إلا وداهمته بأسئلتها، حتي أن المراجعات الفكرية لم تدّخر أسّا من أساسات هذا الدين بعيدا عن سؤالي المعقولية والحداثة، وبالمثل، لم تُبق التحوّلات الاجتماعية مسلكا من مسالك 'العقيدة الاجتماعية' للكنيسة، في منأي عن المراجعة والملاءمة مع العصر. مؤلّفو هذا الكتاب هم من أعلام الفكر اللاهوتي الراهن، وبالتالي، يعكس مقولهم صدي الجدل الذي يؤرق رجالات الكنيسة. ذلك أن المسيحية الحالية تقف من ناحية، في مهبّ تحدّيات جمّة تربك علاقة المركز بالأطراف، ومن ناحية أخري أمام مراجعات تمس بنية النص. أي إشكالية المأزق الفكري وما تصحبه من قضايا مصيرية، وإشكالية التحدي النقدي وما يفرضه من تعاطي مع النص القدسي. لكن في خضمّ هذه المستجدات ما انفكت المؤسّسة الدينية الكنسية تعضّ بالنواجذ لإدامة الاستحواذ علي روح الدين، التي تبدو متفلّتة كالفرس الجموح، وتُصرّ كذلك علي احتكار التأويل الصائب، وما يصحبه من إضفاء نعوت 'التكريم' و'التطويب' و'التقديس'. لكن في الغرب، حيث تتركز سلطة الكنيسة العالمية، وحيث تبدو 'الساحات عامرة والكنائس خاوية'، لا يعني ذلك أن الإيمان في أزمة، ولكن مؤسسات الدين هي التي تعتريها الأزمة. حين كنت أترجم هذا المؤلف كنت أدرك عميق الإدراك اعتياد الفكر الديني الإسلامي، كلما بادر بتدارس قضايا الدين المسيحي، القفز قرونا إلي الخلف، وحتي وإن تنبه إلي الراهن، فهو يجد نفسه مهووسا ومكبَّلاً بمسألة 'التبشير' التي استنزفت قواه منذ أن أثيرت مع مصطفي خالدي وعمر فروخ في مؤلفهما 'التبشير والاستعمار'. مهملاً التحولات والإشكاليات التي عاشها ويعيشها أتباع المسيح في عصرهم الراهن. ولكن علي العموم تبقي المسيحية تندرج في تصور المسلم ضمن 'ماضي الأديان' وليس ضمن 'حاضر الأديان'، وهو في الحقيقة قصور ألمّ بالفكر الديني لدينا جراء افتقار الساحة إلي علم مسيحيات في مؤسساتنا الجامعية والبحثية. ولذلك لا يزال الفكر الإسلامي وبشكل عام يطوف حول قضايا 'الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح' لشيخ الإسلام ابن تيمية. لم يخرج من التناول السجالي إلي التناول العلمي الواقعي. لذلك أردت هذا الكتاب إطلالةً علي أهم قضايا الفكر المسيحي الغربي اليوم، من قبل أتباع عيسي وأحمد 'عليهما السلام' في بلاد العرب. مترجم الكتاب عزالدين عناية، هو أستاذ تونسي بجامعة روما في إيطاليا، نشر مجموعة من الأعمال والترجمات تتناول الدراسات العلمية للأديان منها: 'علم الاجتماع الديني'، و'علم الأديان'، و'نحن والمسيحية'، و'السوق الدينية في الغرب' و'الاستهواد العربي'. الفكر المسيحي المعاصر تأليف: برونو فورتي-جون. س. كسِلمان-رونالد.د.ويثروب ترجمة: عزالدين عناية دار صفحات، دمشق 2013.