أتيحت لي زيارة الصين مرات عديدة بعضها قبل النهضة الاقتصادية عندما كانت تحت سيطرة الاقتصاد الاشتراكي المغلق.. وبعضها خلال السنوات الأخيرة بعد الطفرات الهائلة التي حققها هذا الاقتصاد نتيجة تصاعد وتيرة الانتاج وتجويده وتنويعه وتصديره إلي كل أسواق الدنيا.. شاهدت الصين عندما كان من النادر أن تري في شوارعها سيارة تسير إلا من عدد محدود جدا منها روسية الصنع يستخدمها علية القوم من قيادات الدولة والحزب الشيوعي الحاكم . كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل لغالبية طبقات وفئات الشعب هي الدراجات التي كانت تزدحم بها الشوارع بشكل مثير ولافت للنظر خاصة في الساعات الأولي من الصباح للذهاب إلي العمل وبعد الظهر عند العودة إلي البيوت . لم تكن هناك محلات لشراء أي سلعة إلا المحلات الحكومية التي تخضع لقيود في بيع بضائعها إلي جانب بعض المواقع المحدودة الأخري المخصصة للأجانب حيث كان يتم الشراء بالعملات الأجنبية تحت رقابة مشددة، كان مطلوب من الاجنبي تغيير ما لديه من عملة بالطرق الرسمية المشروعة لسد مصاريفه بما في ذلك الاقامة.. مع الاحتفاظ بايصال البنك والفواتير الدالة علي قيمة مشترواته ومصاريفه حتي يكون له الحق في تغيير ما تبقي معه من عملة صينية بنفس العملة التي قام بتغييرها. لم يكن في العاصمة بكين أو المدن الصينية الأخري الشهيرة مثل شنغهاي أي مبان مرتفعة باستثناء بعض المباني المعدودة التي كان يتم استخدام معظمها كفنادق لاقامة الزوار والوفود، وظلت الأمور علي هذا الحال حتي بداية التسعينيات عندما تبنت الدولة سياسة الانفتاح الاقتصادي التدريجي من خلال السماح لبعض الاستثمارات الأجنبية التي كان يسيل لعابها علي التعامل مع هذا السوق الهائل الذي يصل عدد سكانه إلي ما يفوق المليار و003 مليون نسمة.. هذه الرغبة من جانب كبري الشركات العالمية والقائمة علي التوقعات التفاؤلية جعلتها ترضي بكل الشروط الصينية التي كان علي رأسها السماح لها بالعمل والانتاج في مقابل نقل التكنولوجيا الصناعية إلي الصين وهو ما حدث بالفعل، كان هم المسئولين الصينيين العمل علي استيعاب هذه التكنولوجيا وإتاحة الفرصة لأكبر عدد من العمال الصينيين للتدريب واكتساب المهارات .. وهو ما أدي خلال السنوات التالية إلي تحويل الصين إلي أكبر مركز في العالم للانتاج والتصدير. لقد زرت الصين كما ذكرت أكثر من مرة بعد هذا التطور الخيالي لاجدها في كل مرة تشهد متغيرات هائلة ومثيرة في كل أوجه الحياة . آخر مرة كانت منذ سنتين حيث أذهلتني الشوارع المزدحمة بالسيارات الحديثة وانتشار المباني والأبراج العالية، هذا التحول الذي شهدته الصين خلال عشرين عاما جعلني عندما اتغاضي عن الكتابات الموجودة باللغة الصينية أجزم بأن بعض الشوارع والاحياء لا تقل تقدما وفخامة عن مدينة نيويورك أو أي مدينة أوروبية أخري . وشمل هذا التطور الأسواق القديمة التي تحول بعضها إلي »مولات« تغص بكل أنواع البضائع سواء المحلية الفاخرة أو المستوردة.. لم يكن غريبا في ظل هذه الطفرة الاقتصادية ان تقفز الصادرات الصينية التي غزت كل أسواق العالم لتدفع بالصين إلي المقدمة. ان التقارير الاقتصادية العالمية الاخيرة تقول أنها تفوقت علي ألمانيا في حجم الصادرات . بالطبع ووفقا لهذه البيانات المعلنة فإن هذا التقدم الاقتصادي كانت له انعكاسات سلبية علي مجتمع المليار و003 مليون نسمة حيث تشير إلي ان 02٪ فقط من هؤلاء السكان يملكون كل مقدرات الحياة من الناحية الاقتصادية بينما لا يتجاوز متوسط دخل الفرد من ال 08 ٪ الباقية دولارا واحدا في اليوم.. ورغم هذا التفاوت العظيم فإن المسيرة الصينية مستمرة وسط هذه الانواء الاجتماعية بينما تتضافر جهود الدولة وخبراتها للعمل علي معالجة هذا الخلل . لمواجهة هذا الوضع فإن العمل يتركز حاليا علي محاولة رفع مستوي المعيشة والخدمات والمرافق في المحافظات الزراعية الريفية تجنبا لأي تداعيات مستقبلية.