رحل البابا شنودة الثالث عن حياتنا أمس الأول وبرحيله اختفي عن مسرح الحياة السياسية والدينية عن مصر رجل حكيم. بكينا جميعاً هذا الرجل، مسلمين ومسيحيين علي حد سواء، فالبابا شنودة شخصية كاريزمية أثرت في المصريين جميعاً بمواقفها الواضحة .. الشجاعة .. والحكيمة. وربما كانت مقولته الجميلة "مصر وطن يعيش فينا، لا وطن نعيش فيه" تعبر بصدق عن مسيرة هذا الرجل فقد كانت مصر دائماً نصب عينيه والحب المتجذر في أعماقه الذي يدافع عنه ضد أي متآمر أو متربص بمقدراته. البابا شنودة شخصية تستحق منا اكثر من البكاء علي رحيله واكثر من أن ننعيه ونقيم حفلات التأبين له.. فمثل هذه الشخصيات لا تموت برحيلها المادي عن الدنيا بل تبقي خالدة بمبادئها وأقوالها ودروسها وحكمها. لذلك فلا عجب أن الخبر كان حزيناً ومؤثراً بالنسبة لكل مصري مسيحيين ومسلمين ، لأن البابا شنودة لم يكن بابا الكنيسة المرقسية فحسب بل كان شخصية عامة لعبت دوراً سياسياً واجتماعياً مهماً في تاريخ الوطن. وإذا قرأنا تاريخ البابا شنودة فسوف نتوقف بمزيد من التأمل لمحطات مهمة في حياته، فهو مثقف من طراز رفيع وكان يكتب الشعر في شبابه ، كما كان له حس ساخر في كتاباته رغم أنه رجل دين ، لكنه كان يؤمن أن الانفتاح علي المجتمع والبساطة في التعامل مع الآخرين مهما اختلفوا معه هما المفتاح الحقيقي للوصول إلي قلوب الناس ، وهذا ما جعله وجهاً محبوباً لدي المصريين جميعاً علي اختلاف دياناتهم واتجاهاتهم السياسية. وشخصية تجتذب الجماهير بحضورها القوي وصدقها الحقيقي وحكمتها العميقة. ولمن لا يعرف تاريخ البابا شنودة فقد التحق بكلية الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة ( فؤاد الأول آنذاك)، وحصل علي الليسانس بتقدير (ممتاز) عام 1947 كما التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1948 وكان الأول علي دفعته ، كما التحق قبل تخرجه من كلية الآداب، بالكلية الإكليركية، وتخرج فيها عام 1949 بتقدير (ممتاز) وكان الأول علي دفعته أيضاً. وهو من مواليد 3 أغسطس عام 1923 واسمه "نظير جيد روفائيل"، في قرية سلام بمنفلوط ، وهو البابا رقم 117 للكنيسة الأرثوذكسية. انتقل نظير جيد إلي مدينة دمنهور، ودرس في مدرسة الأقباط الابتدائية ثم درس بمدرسة الأمريكان ببنها، وانتقل مع أسرته إلي القاهرة وسكن حي شبرا حيث درس بمدرسة الإيمان، ونال إعجاب معلميه لتفوقه ودماثة خلقه. وكان البابا شنودة يتمتع بذكاء اجتماعي وحس مصري أصيل لذلك نجده أول بابا يقيم حفلات إفطار رمضانية لكبار المسئولين بالدولة منذ عام 1986 بالمقر البابوي وتبعته في ذلك معظم الإيبارشيات، وهو أول بابا يحضر حفلات إفطار رمضانية تقيمها وزارة الأوقاف ويشارك بنفسه في جميع المؤتمرات والأحداث المهمة بالدولة. لذلك أري أن أكبر تكريم لشخصية البابا شنودة هو أن نستفيد من فلسفته في حب الوطن وتفضيله لمصلحته ووضع هذه المصلحة فوق كل الاعتبارات والاختلافات السياسية والدينية والعقائدية . لقد عاش البابا شنودة حياته رمزاً رائعاً للتسامح ووقف بشجاعة في وجه كل من أراد تمزيق نسيج الوطن أو إثارة الفتنة بين الأخوة المسلمين والمسيحيين وكان دائماً يتحدث باسم مصر لا باسم مسيحيي مصر وضرب بذلك مثلاً رفيعاً للوطنية والاخلاص والحب لتراب هذا الوطن. رحم الله البابا شنودة وأثابه خيراً عن كل ما أعطاه لهذا الوطن.