عزت القمحاوى لا يمكن لأحد أن يدعي أن الثورة حققت شيئًا خلال أكثر من عام. وليس ذلك لأن الثورة سيئة؛ بل لأن أعداءها سيئون ويعيشون خارج الزمن، إلي حد عدم تصديق ما حدث. لم يتحقق الأمان المادي، تدهور الأمن الشخصي، والبرلمان الذي كان دارًا لإيواء المسنين العجزة تحول إلي سيرك صاخب، بينما كانت البلبطة في أوحال الداخل وزيادتها بلا سبب في إبقاء يد مصر مشلولة إقليميًا أكثر مما كانت في السابق. كان المطلوب تيئيس الأغلبية الصامتة من الثورة وزرع كراهيتها في نفوسهم، لكن أعمق نقطة في ريف مصر أصبحت واعية بالملعوب. ربما كانت النتيجة الوحيدة المؤكدة للثورة (المباركة بدماء شبابها) هي حالة الوعي التي اكتسبها المصريون خلال عام، هذه الحالة هي التي أفسدت كل الطبخات الشائطة التي طُبخت للمصريين حتي اليوم، وهي التي جعلت حرق الصور الزائفة حدثًا يوميًا. صحفيون وكتاب ورؤساء أحزاب وزعماء موهومون استطاعوا التوازن علي حبل السيرك الرفيع خلال عقود مبارك، يزورون لاظوغلي مرة بصفتهم متهمين (لزوم التلميع الشعبي) ومرة أصدقاء للضباط وواشين بغيرهم، مرة يعارضون بالصوت العالي ومرة يتلقون الأوامر بتضليل القطيع. عاشت الثعالب تحت فراء الأسود عقودًا، لكنها بعد الثورة تنكشف بمجرد أن تفتح فمها. ولا يعني استمرار الكثيرين في مواقعهم حتي اليوم أنهم أحياء في عين أحد، بل إنهم أصبحوا للناس آية، فهم يتكلمون مع أن نفوسهم ميتة. لكننا نعرف كذلك أن الذين استهدفوا عين الثورة وقلبها هم أنفسهم الذين حافظوا لجثامين الموتي علي أماكنها المميزة، لكي تواصل الجثامين عرقلة الثورة وتأخير قطار التغيير. أتعبونا، ولكن الحرق السريع هو نصيب كل شخص يقترب من طبخة فاسدة مشاركًا في الطبخ أو آكلاً ومتظاهرًا بالتلذذ برائحة الشياط. وقد امتلأ أتون الثورة خلال عام برماد الرجال، واليوم تدفع انتخابات الرئاسة إلي المحرقة نفسها برجال وأحزاب وجماعة ذات طموح سياسي قاتل، والحق أقول لكم: هذا أفضل جدًا، أفضل عند الله والوطن أن ينكشف اللاعبون. ليس في التاريخ المعروف للديمقراطيات الحابية علي أربع أو الواقفة علي رجلين ما يسمي ب "المرشح التوافقي" بل إن الأمريكيين لا يسمحون بفكرة التوافق حتي داخل الحزب الواحد. وها هم يشغلون العالم نحو عام بالانتخابات الداخلية في الحزب الجمهوري (جرت العادة فقط علي تزكية الحزب للرئيس الحالي إن كانت دورته الأولي) غير هذا لا ينال المرشح حق تمثيل حزبه إلا بالانتخاب داخل الحزب، بينما نقوم نحن بثورة ينطبخ فيها كل شيء بشكل سييء، ونحاول طبخ الانتخابات باختراع الرئيس التوافقي. صفة يحملها الشخص يومًا أو بعض يوم لتسقط عنه بالحرق المعنوي الذي يفهمه المحروق أحيانًا فينسحب أو يتمادي في المعجزة ويتكلم عن برنامجه وهو ميت. ينحرق المرشح التوافقي بسرعة مضاعفة؛ مرة إكرامًا لتاريخهم الشخصي مع مبارك ومرة لأنهم مأمورون بالترشح من قبل طهاة الأكل الشايط. منذ بدأ التفكير في أن مصر يلزمها رئيس تدافعت أسماء عمر سليمان، أحمد شفيق، عمرو موسي، سليم العوا، ثم نبيل العربي الذي سارع ورفض الزج باسمه محتميًا بتراب مقبرة الدبلوماسيين (الجامعة العربية) من لهاليب فرن التوافق. وها هو التوافقي الجديد منصور حسن ينضم لقافلة التجنيد الإجباري لرئاسة الجمهورية مرضيًا عنه من المجلس العسكري والإخوان وحزب الوفد الذي كان! الرجل الذي تخطي سن التجنيد بنصف قرن ينفي أن يكون مأمورًا، والجماعة تنفي أن تكون أعطت دعمها، لكن ما ينفيه المرشح المجند وما تنفيه الجماعة يؤكده الوفد؛ الحزب الذي شاط ولم يزل يتصور أنه وفد النحاس. يلقي الحزب بآخر فرص بقائه، فلم يعد هناك مجال لحزب يتلقي الأوامر، كما أن جماعة الإخوان تلقي بآخر أوراق التوت، فهي دخلت الثورة متأخرة والبرلمان مبكرًا ولم تكن سيرتها مع الميدان قويمة في الجمع الحاسمة، وما أدراك ما البرلمان الذي يشكلون أغلبيته: لا حكومة زجر ولا فقيرًا أطعم ولا حاسب مجرمًا في مجزرة تاريخية لن تمحي كمجزرة بورسعيد. من الواضح أن الجماعة تريد محاسبة المرشح المستقل عبدالمنعم أبو الفتوح، ومن حقها كجماعة أن تفعل ما تريد بمن يشق عصا الطاعة، لكن داخل الجماعة لا الحزب وليس علي حساب ترتيبات تنال من مستقبل البلاد، ومن مستقبل الجماعة بالتأكيد، لأن وعي الشعب لم يعد يفرز الملتحي من غير الملتحي عند الحكم عليه، فالدين لنا جميعًا ومن يتصدي للسياسة عليه أن يجعل دنيانا أفضل ولو قليلاً. الجماعة ذات باع طويل في التجارة، هذا معروف وليس عيبًا، وربما عليها أن تتدبر موقفها السياسي بحسبة التجارة، فتحالفها مع المجلس العسكري لا يشبه إلا تحالفي مع نجيب ساويرس. وليست الجماعة وحدها من يجب أن تتعقل، بل الطهاة الذين لم يدركوا حتي اليوم أن المصريين سيفضلون الموت جوعًا بعد عام ازدادوا فيه جوعًا وخوفًا، ولم تمتليء فيه صدورهم إلا بروائح قنابل الغاز ودخان الطبيخ الشائط.