أقطع مراجعتي لثورة يناير المجهضة لأقص عليكم ما حدث في الأسبوع الماضي: كنت طريح الفراش لسبب عادي جدا، الانفلونزا اللعينة التي لا تحتاج لسبب كي تنتشر عندنا. فما بالك إذا كان الجو زفت مثلما كان؟ حوالي الساعة السابعة مساء الأربعاء اتصلت بي السيدة ريتا بدر الدين، سيدة المجتمع التي تستضيف في صالونها أدباء وكتابا وفنانين. كانت صديقة للمرحوم أستاذ الفلسفة الدكتور عاطف العراقي. قالت لي بلهجتها اللبنانية المميزة " يا دكتور (وهي مصرة علي هذا اللقب الذي ليس لي) اتصل بي الآن واحد قال لي إنه يتحدث من معهد الدراسات الإسلامية، وأن الدكتور عاطف العراقي مات أثناء إلقائه المحاضرة، ولا يعرفون أحدا من أهله، ولا يعرفون كيف يتصرفون. وقد وجد رقمي مسجلا علي التليفون المحمول للمرحوم فاتصل بي. ألا تعرف قريبا للدكتور؟ ". بلعت الصدمة وأجبتها بلا. سألتها عن عنوان المعهد لكي أرسل أحدا هناك يحاول أن يفعل شيئا. فأجابت بأنها لا تعرف. فسألتها هل تعرف رقم الشخص الذي اتصل بها من المعهد فقالت لا. فقلت لها سأتصرف وأتصل بها مرة أخري. اتصلت برقم الدكتور عاطف العراقي نفسه. بعد أن خمنت أنهم طالما اتصلوا بالسيدة ريتا من تليفونه فلابد أن أحدا سيجيب عليه. وبالفعل أجابني أحدهم وقال لي إن عميد المعهد والأساتذة والطلاب موجودون الآن حول الجثمان وأنهم يريدون الوصول إلي أحد من أقاربه، وأنهم لا يعرفون عنوان بيته. فسألته عن عنوان المعهد فأخبرني أنه بجوار وزارة الشباب والرياضة وأمام نادي الزمالك بالجيزة. اقترحت عليه الاتصال بأرقام أخري من علي تليفون المرحوم لعلهم يصلون إلي أحد أفراد عائلته. وأنني من جهتي سأحاول عمل شئ. فكرت أن أول من يجب أن أتصل به حقيقة هو وزير الثقافة. فهو المسئول الأول عن كتاب وأدباء وفناني مصر. اتصلت بالوزير الأستاذ الدكتور شاكر عبد الحميد. وجدته في سيارته عائدا من مكتبه إلي بيته. أخبرته بما حدث للدكتور عاطف. وسألته إن كان يعرف أحدا من أهله فنفي. اقترحت عليه أن يرسل بمدير العلاقات العامة في الوزارة حالا إلي المعهد، ويعطيه تعليمات بأخذ الجثمان إلي مستشفي علي نفقة الوزارة حتي الغد وحتي نجد أحدا من عائلته. فلا يعقل أن يترك جثمانه في إحدي قاعات معهد الدراسات الإسلامية طوال الليل. فالمرحوم عاش طوال حياته وحيدا لم يتزوج، وهو أصلا من محافظة الدقهلية. بعد قليل اتصل بي السيد/ حسام شكيب مدير العلاقات العامة بمكتب الوزير لمزيد من التفاصيل التي لم تكن لدي. أعطيته رقم تليفون المرحوم المحمول. أغلقت الهاتف معه واتصلت بالسيدة ريتا مرة أخري لأخبرها بما فعلت. فامتنت كثيرا بأدبها الزائد، وأضافت بأنها توصلت لابن أخ الدكتور عاطف وتكلمت معه. حمدت الله. وطلبت منها أن تعطيه رقم تليفوني للاتصال بي إذا احتاجت الأسرة أي شئ. عاودت الاتصال بمدير العلاقات العامة الذي أخبرني أنه أرسل مندوبا بالفعل إلي المعهد. وأنه تحدث مع الأستاذ الدكتور وكيل كلية الآداب بجامعة القاهرة الذي كان هناك، والذي طلب منه عدم إرسال سيارة إسعاف لتقل الجثمان لأن جامعة القاهرة ستتولي كل الإجراءات كعادتها مع أبنائها. حملت سيارة إسعاف الجامعة الجثمان إلي مستشفي قصر العيني. بات جسد الدكتور عاطف ليلته الأخيرة علي الأرض في ثلاجة المستشفي. وفي الصباح واصلت الجامعة تقليدها المحترم تقديرا منها لعلمائها. ذهب عدد من زملاء وتلاميذ المرحوم مع أهله إلي المستشفي وصحبوه إلي مبني كلية الآداب الذي قضي فيه جل عمره. صلوا عليه صلاة الظهر هناك. ورافقوه في رحلته الأخيرة إلي قريته " كفر الدبوس " بمركز شربين في محافظة الدقهلية. انتهي الحدث وبدأ التأمل. هذا مثال واضح علي الآية القرآنية: " وما تدري نفس بأي أرض تموت ". كما هو مثال علي الراحل الجليل. فها هو شيخ في السابعة والسبعين لم يتوقف عن السعي في الأرض علي قدميه. أعتقد أنه لم يكن يفكر في موته، علي الرغم من أن موضوع الموت يحتل نصف الفلسفة. ولم يحتسب لكيف سيموت. لم يتوقف عن تحصيل العلم وتعليمه إلي تلامذته طوال هذا العمر. لم يتوقف حين يشعر الإنسان بحاجته إلي "المعاش". كان المعاش بالنسبة له هو العيش، أي الحياة، يعني مواصلة العمل. كانت حياته هي فلسفته. وكان أستاذا للفلسفة، أي أستاذا لحياته. لا أريد هنا " الانحراف " عن لب المقال للكلام عن الفلسفة التي لا يأتي ذكرها في وسائل الإعلام. عرفت الراحل منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. كان يهل علينا أينما التقينا بجسده النحيف وقامته القصيرة كأنه الطيف، أو صورة له. يحمل نفسه خفيفا علي الأرض كأن قدميه لا تلمسانها. عاني كثيرا من عدم تقدير الدولة له، علي الرغم من أن الدولة قدرته. لكن تقديرها كان دوما متأخرا، وبأقل مما يستحق. حصل علي الجائزة التقديرية منذ عام ونصف بعد أن حصل بعض ممن هم دونه علي جائزة " مبارك سابقا". عاني متحسرا وهو يري " الأذناب " يحصلون علي تقدير لا يستحقونه أو بأكثر مما يستحقون. لم يكن نجما لامعا، ولا يسعي. كان لا يملك إلا رأسه. رأسا بحجم الكون علي جسد بحجم نبات صغير. كنت أعزيه قائلا بأن تقدير الدولة لن يزيده كثيرا. فيبتسم بفمه الصغير حيث لا يقوي وجهه علي القهقهه.