محمد فهمى في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة 71 فبراير الحالي فتحت أبواب قصر »بيلفو« في قلب برلين.. أمام المصورين والصحفيين.. وتوجه نحوهم الرئيس الالماني كريستيان فولف.. وعلي يمينه زوجته »بيتينا« للاعلان عن استقالته.. ورفع الحصانة عنه ليتمكن النائب العام من التحقيق معه في تهمة ارتباطه بعلاقات صداقة مع عدد من رجال الاعمال.. الأثرياء.. زادت بينه وبينهم الالفة.. ورفعت الكلفة! قال كريستيان فولف.. لقد قبلت منصب رئيس الجمهورية.. وبذلت قصاري جهدي لاداء الواجب كما ينبغي ان يكون.. وتفرغت تماما بكل وقتي وجهدي لمهام منصبي.. وكانت تسعدني ثقة الشعب بي.. وهي ثقة كنت اعتز بها وباطرادها ونموها يوما بعد يوم إلا ان هذه الثقة تراجعت في الاسابيع الاخيرة. وقال فولف.. ان المانيا في حاجة لرئيس يحظي بثقة الشعب بلا حدود وعلي نطاق واسع.. لان هذه الثقة هي الاساس لمواجهة التحديات الوطنية والدولية.. ومضي الرجل يقول بنبرات الحزن.. ان تطورات الاحداث في الاسابيع والايام الماضية اكدت ان هذه الثقة قد اهتزت ولم تعد علي نفس المستوي من القوة التي كانت عليها من قبل.. ولذلك فانني اقدم استقالتي اليوم لفتح الطريق امام اختيار رئيس جديد للجمهورية.. يحظي بثقة الشعب! وقال فولف ان التقارير الاعلامية التي تحدثت في خلال الاسابيع الاخيرة قد اصابت زوجته »بيتينا« كما اصابته بجروح عميقة!.. واضاف بان جميع الاتهامات التي وجهت اليه.. لا أساس لها من الصحة.. وسوف تسفر التحقيقات عن براءته. وفي نهاية خطابه اعرب فولف عن عميق شكره للمواطنين ولعائلته ولزوجة بيتينا.. بصفة خاصة التي قامت بتمثيل المرأة في المانيا الحديثة اروع تمثيل.. وكانت نموذجا مشرفا للانسان الالماني علاوة علي قيامها بواجباتها المنزلية تجاه »أطفالنا وتجاهي« علي حد قوله. وامسك رئيس الجمهورية المستقيل بيد زوجته.. ولوحا للشعب الالماني بتحية الوداع. وفي حدود ما ينص عليه الدستور الالماني.. اسندت مهام رئيس الجمهورية المستقيل.. لرئيس البوندسرات الذي يضم نواب البرلمان الاتحادي »البوند ستاج« وبرلمان الولايات الذي يرأسه حاليا هورست زيهوفر رئيس وزراء ولاية بافاريا.. وفي يوم الاثنين 02 فبراير الحالي بدأت النيابة العامة تحقيقاتها.. حول المزايا والمنافع التي يقال ان الرئيس المستقيل قد حصل عليها من جراء منصبه ومن علاقاته الوطيدة بعدد من رجال الاعمال والمستثمرين.. وعن الاموال التي حصل عليها لتجديد منزله الخاص.. فيما يطلق عليه في المانيا.. »فضيحة فولف« أي فضيحة رئيس الجمهورية.. علي أساس ان مرتب الرئيس لا يسمح له بالقيام بالتجديدات التي ادخلها علي منزله الخاص.. وان احد الاصدقاء من المقاولين هو الذي قام بالتجديدات مجاملة للرئيس.. والمفروض الا يقبل الرئيس المجاملات اثناء شغله لمنصبه.. وان المجاملات تثير الشبهات.. حول مزايا محتملة قد يحصل عليها المجامل.. لا سيما وان متلقي المجاملة هو رئيس الدولة. علما بان منصب رئيس الجمهورية في المانيا.. هو منصب شرفي.. ولا يتدخل بحكم الدستور في اعمال السلطات التنفيذية وليس في سلطاته منح الاراضي الشاسعة بتراب الفلوس.. ولا منح الجزر في جنوب وادي النيل للمعارف والمحاسيب.. ولا انشاء وزارة طيران بحالها مجاملة لصديق العمر.. كي يقضي بها وقت فراغ بعد خروجه من الخدمة .. الخ. كل هذه الافعال الاجرامية ليست من سلطات رئيس الجمهورية الالماني.. ناهيكم عن الفكرة الجهنمية بتوريث السلطات والممتلكات والمسروقات للأبناء.. أو الغمز بأطراف الحواجب للنجل الاكبر كي يأخذ باله من الانتربول قائلا له: خش جوه يا علاء.. خد لك كرسي معسل! أو يقول للمعارضين في الصحف.. اسكت ياواد.. يابهيم منك له.. دي بلدي وانا حر اعمل فيها.. زي ما انا عايز.. واللي عنده كلمة يلمها في حنكه.. جتكوا نيلة. ومع ذلك وعلي الرغم من ان رئيس المانيا لا يملك سلطات نشر الفساد في ربوع البلاد.. فإنه سوف يخضع للمساءلة بسبب مظاهر العز التي احاطت به بعد توليه منصب الرئيس وتعرضه لحملات هجوم كاسحة في وسائل الاعلام.. ادت في النهاية لاستقالته صباح يوم الجمعة مع ملاحظة اننا نتكلم عن اغني دولة في اوروبا.. نتكلم عن المانيا.. وليس عن باكستان او افغانستان او قبائل الهوتو والتوتسي. نتكلم عن الدولة صاحبة اقوي اقتصاد في اوروبا. أما الملاحظة الاهم في الموضوع.. فان المحاسبة بدأت من فوق.. وليس من تحت .. بدأت من رئيس الجمهورية.. وليس من الراقصة هياتم التي دخلت السجن لانها لم تذكر حقيقة تاريخ ميلادها في استمارة الرقم القومي وزعمت علي غير الحقيقة انه لم يسبق لها الزواج. الرسالة التي توجهها الاستقالة تقول للشعب الالماني.. نحن نحاسب الكبار.. أولا.. ولا نطبق قاعدة »الكبير سيبوه.. والصغير امسكوه«.. عندنا يحدث العكس .. فصغار الفلاحين الذين لم يسددوا ما عليهم من ديون لبنك الائتمان الزراعي.. دخلوا السجن.. وامضي البعض منهم اكثر من خمس سنوات بسبب دين قدره مائة جنيه.. وان فوائد الديون كانت في بعض الحالات تزيد عن قيمة الدين.. في الوقت الذي كان فيه حسني مبارك وحسين سالم يتصرفان في ثروة مصر.. تصرف الموصي في اموال الايتام.. المحاسبة في المانيا.. بدأت من فوق.. ومع صاحب أرفع منصب في الدولة.. وتناولتها جميع وسائل الاعلام.. واصبحت الفضيحة تجري علي كل لسان.. ويناقشها الاطفال في دور الحضانة كما يناقشها الكبار في دور المسنين.. ولم تكن كل هذه الضجة لمحاسبة رئيس جمهورية.. بقدر ما كانت رسالة للمجتمع بأسره حول الاخلاق التي يتعين ان يتحلي بها المواطن الذي يحمل الجنسية الالمانية.. وما هو الخطأ.. وما هو الصواب.. وما هو المال الحلال وما هو المال الحرام؟ وبالتالي فإن القضية ليست قضية محاسبة رئيس الدولة.. وانما القضية هي الاخلاق التي يتعين ان يكون رئيس الجمهورية ممثلا لها.. كي يظل الشعب كله علي بينة بالصواب والخطأ.. من وجهة نظر الدولة.. وليس من وجهة نظر رجال الدين.. المحاسبة هي محاسبة دنيوية وبناء علي القوانين التي تسنها الدولة.. التي لا يمكن ان تقوم إلا علي مباديء الاخلاق الرفيعة.. وبناء علي قوانين يلتزم بها الجميع وتراقبها الدولة.. الانفلات الاخلاقي وتدهور القيم.. وتحول اعمال البلطجة الي ظاهرة تعود كلها.. لاننا لم نحاسب الكبار.. ابدا ولم نسمع ان مسئولا كبيرا قد حوسب او عوقب طوال الثلاثين سنة الماضية.. وبالتالي لم يعرف الشعب المصري العظيم قواعد الصواب والخطأ أو حدود التصرف في المال العام.. ولذلك نقول ان الانفلات الاخلاقي في ظل النظام الاجرامي البائد.. بدأ من فوق ولم يبدأ من تحت .. لان سلطات حسني مبارك لم تكن لها أي حدود والقوانين لا تسمح.. بمحاسبته.. ولا حتي بعتابه.. عتابا حلوا علي رأي نجاة الصغيرة.. ان استقالة الرئيس الالماني.. ورفع الحصانة عنه لمحاكمته بتهمة التنقل بطائرات الاصدقاء.. هي رسالة موجه الينا.. ايضا رغم محاولات التعتيم الاعلامي التي صاحبت هذه الاستقالة. خلاصة الكلام ان الدولة التي لا تحاكم رئيس الجمهورية محاكمة سياسية هي الدولة التي يتزايد فيها اعداد البلطجية والنشالين الذين تسببوا في ظاهرة الانفلات الاخلاقي التي نعاني منها كل ساعة.. وان تضم ظاهرة الانفلات الاخلاقي ملايين البلطجية واللصوص. ملايين من صغار الخونة!