نبىل زكى مفكر في القرن التاسع عشر أخذ يتأمل أول ظهور للقاطرة البخارية، ثم قال: هذه الآلة ستهدم المجتمع القديم، فهي أكبر ناقل للأفكار. فماذا عن نقل الأفكار وتداولها في زمن ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؟ إنها تحقق قفزات في مستوي الوعي وتفتح أبوابا مثيرة لحركة التجديد ولنهضة سياسية وفكرية تكسر أغلال القيود التقليدية بعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دوراً مهماً في الحراك السياسي والاجتماعي.. ولم يعد هذا الجيل الجديد المتعلم من شباب ما بعد ثورة المعرفة والاتصالات مقتنعا بالمسكنات السياسية أو الاجتماعية، بل ان شريحة واسعة من الجيل الشاب في العالم العربي بدأت تبلور رفضا للنموذج السياسي والمجتمعي الذي لايزال سائداً منذ العصور الوسطي. هذا الشباب يطلب المساواة في الفرص، وبالحق في المشاركة في الحياة السياسية وتداول السلطة والتحرر من تحالف السياسة والمال والإعداد لمستقبل يكفل لهم معيشة إنسانية لائقة في بلدانهم دون أن تكون الهجرة هي الحل الوحيد المتبقي أمامهم. وشعارات الثورات عن الحرية والديمقراطية وتغيير الحكام المستبدين والفاسدين ومحاسبة الفساد والإثراء غير المشروع وتحقيق العدالة الاجتماعية هي شعارات مدنية بكل ما للكلمة من معني.. لم يستمع الشباب إلي فتاوي تقول: »إذا كان الإمام أو الحاكم عادلاً، فإن له الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً ظالما فله الوزر أي يتحمل الذنب وعليك الصبر«. ولوحظ في بعض الدول ان الذين كانوا يحضون الشباب الثائر علي الصبر علي الحاكم المستبد.. لم ينخرطوا في الثورة إلا بعد أن صدمتهم قدرة الشباب علي إنزال الملايين إلي الساحات والميادين للاعتراض علي نظام القهر والقمع.. هذه الكتلة الشبابية المتعلمة والمنفتحة علي العالم بأسره أصبحت تعد بالملايين في كل بلد، وهي تثور علي ماض متراكم منذ القرون الوسطي، والذي كان آخر تجلياته تلك الأنظمة العربية المتخلفة المتحالفة مع رأس المال ومجموعة من محترفي تقديم الفتاوي »الدينية« حسب الطلب. ما تشهده المنطقة العربية حاليا يشكل طفرة في المسار التاريخي الطويل الذي بدأ في القرن التاسع عشر.. وعرف باسم »النهضة«. وهذا التيار التقليدي، فإنه سيبدو للوهلة الأولي وكأنه المنتصر، غير أن تطور الأمر سيكشف انه لن يستطيع أن يقف في مواجهة موجة التغيير التي تنمو وتتسع مع مرور الوقت، وإما ان يضطر إلي تغيير سياساته وشعاراته والتحول بدوره إلي تيار شبه مدني أو يخرج من مواقع الحكم والنفوذ. إننا في زمن يتطلب إقامة الجسور وتعزيز الثقة بين الحضارات المختلفة بروح البناء والمشترك الإنساني تجاوزا لحدود الأمم والقوميات والأديان للبحث عن أسس التعاون والتواصل البشري. ذلك ان رفض التخلف والقضاء عليه كفيل بانبعاث حضاري جديد.. وسوف يستمد مثقف القرن الحادي والعشرين شرعيته من مطابقته للقيم العقلانية والإنسانية ومن عمق قراءاته للظواهر الجديدة. والمؤكد أننا في حاجة إلي عقد إنساني جديد ينقذ العالم من دوامة العنف التي تكتسي طابعا دينيا في هذه الأيام ويؤمّن السبيل الأفضل لتحرير البشرية من طاعون التعصب والطائفية والعنصرية والديكتاتورية.. وهناك من يتساءل عما إذا كان انهيار الدولة البوليسية يؤدي إلي ظهور نزاعات طائفية قوية علي السطح.. يهدد الطابع المميز لمصر، بل ربما يهدد المنطقة بأسرها. ويدور التساؤل حول ما إذا كان سقوط الاستبداد يؤدي إلي جعل الدولة أقل تسامحا وأكثر تهديدا للأقليات الدينية. والمفترض ان العكس هو الصحيح.. ذلك ان جميع التجارب المصرية والعربية السابقة تبرهن علي ان الاستعمار الأجنبي وكذلك أنظمة الطغيان المحلية بعد خروج المستعمرين هي التي تحرك الانقسامات الطائفية والمذهبية وتثير الفتن تطبيقا لقاعدة »فرق تسد« ولإلهاء الشعوب عن الاحتشاد ضد الحكام أو الغزاة أو العملاء.. الدليل علي ذلك أن عدد المسيحيين في العراق كان حوالي مليون ونصف المليون قبل الغزو الأمريكي.. والآن أصبح عددهم 041 ألفا فقط. كان الزعيم الهندي التاريخي »المهاتما غاندي« يقول: »لو وجدت أفضل من التسامح لاخترته، لكنني لم أجد أفضل منه«. تلك هي الفلسفة التي أقامت دولة اتحادية تتعايش فيها قوميات وعرقيات وأديان وطوائف ولغات مختلفة علي نحو مذهل.. فهناك بالإضافة إلي الهندوس.. يوجد المسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون، وهم يتمتعون بحقوق متساوية في بلد تعددي يعترف بالتنوع الثقافي وبلغات تزيد علي 32 لغة أساسية وأكثر من ألف لهجة محلية.. بلد شاسع مترامي الأطراف، متعدد الطقوس والمناخات لسكان يزيد عددهم علي مليار وثلاثين مليون نسمة يتوزعون علي 52 إقليما اتحاديا.. ويشغل مكانة كبيرة ومتميزة علي الساحة الدولية. ولهذه الأسباب، فإن هناك من يري اننا لم نعد في زمن يتيح الحديث عن »الحاكمية« أو »جاهلية العالم« و»محاربة الطاغوت« وتكفير الخصوم، وتقسيم العالم إلي »دار الإسلام ودار الحرب«. لم نعد في زمن العنف والعنف المضاد، وليس في مقدور حركات الإسلام السياسي الاستمرار في تبني مقولات خارجة عن التاريخ، وإنما هي في حاجة إلي التحديث علي المستوي الفكري. وبدلا من الحديث عن »الولاياتالمتحدة الإسلامية.. قادمة«، وأنه »سيكون للمسلمين.. قريبا جداً.. خليفة«.. وبدلا من إعلان ان كرة القدم ليست من الألعاب الشرعية(!) وبدلا من تفسير أحداث الثورة بالرجوع إلي أحلام زوجة مؤمنة لأحد القياديين في جماعة الاخوان...(!) فإن التوجه إلي الحداثة هو المخرج، وإذا كنا لا نعرف إذا كان قادة التيار الديني قد تغيروا.. ولأي درجة هذا التغيير.. فإننا نعرف علي وجه اليقين ان العالم تغير بالنسبة لهم. والديمقراطية تحتاج إلي ثورة كاملة إذا كانت الغاية هي الشفافية والمواطنة وتداول السلطة والدفاع عن حقوق الأقليات. وأجمل ما في الثورة هو نضوجها علي نار بطيئة، ولكن لا أحد يملك إيقاف الغد، وخاصة بعد أن تلاشت ثقافة الخضوع، ولم يعد في إمكان أي سلطة أن تسلب من الجماهير الحق في الاحتجاج والمعارضة وإعلان الغضب.. حتي لو استخدمت الفتاوي الدينية أو السياسية. فقد تشكل تيار مدني واسع يحدد مسار التغيير ويمنع حرفه عن اتجاهه.. وأدرك الكثيرون انه بدون الضغط الشعبي تميل النخب المنتخبة إلي انتهاج سياسات تعبر عن مصالحها الضيقة. وما يمكن استنتاجه من وثيقة الأزهر التاريخية حول دعم الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة.. انها تعني قبول الدستور الوضعي والقوانين الوضعية.. أي أن مبدأ الشوري لا ينفصل عن التطور التاريخي الذي يستدعي مواءمة النص المقدس مع متغيرات العصر.. وبعد استيلاء »معاوية« علي السلطة والتأسيس للملك العضوض وللتوريث السياسي وتوظيف ما هو ديني لصالح الدنيوي.. لم يعد مقبولا ان يصبح للحاكم الحق في كل شيء باسم الدين، ولم تكن لذلك أي شرعية غير شرعية القوة. وكما يقول المفكر الإسلامي »جمال البنا«، فإن قضية الإيمان أو عدمه وقضية ترك الإسلام تعود إلي الفرد.. لا إلي المجتمع. وفيما يتعلق بالدولة الدينية، يصر جمال البنا علي انه لا يهم الإسلام ان تكون هناك دولة تدعمه أو تضطهده.. فالإسلام »دعوة قلوب«، أما الدولة فإنها »لا تملك إلا الأجساد«.. فالدولة هي سلطة، والسلطة لا يمكنها ان تستغل الإسلام.. ومن هنا يؤيد »البنا« الفصل بين الدولة والإسلام، وفصل الدين عن السلطة. وتقوم ثورة الشباب بعملية فرز جديد داخل المجتمع.. وداخل النخب المصرية بأدوات الاتصال الجديدة ورغم ضعف نسبتهم إلي المجتمع.. إلا انهم يشكلون قوة لا يستهان بها في الشارع.. وتتزايد قوة هؤلاء الشبان ويتزايد تأثيرهم ويتحولون مع الوقت، إلي قوة فعلية. وعلي قادة التيار الديني أن يضعوا في اعتبارهم منذ الآن ان هناك القوة الانتخابية مقابل قوة الشارع، وأن عليهم مواكبة العصر. كلمة السر: ثمة مستوي آخر من الصراع يبرز الآن.