سمىر غرىب أعددت نفسي لكتابة مقالة عن عرس حول ثورة 25 يناير أقامته الأكاديمية المصرية للفنون في روما وشاركت فيه في الأسبوع الماضي . لكن بعد عودتي فرحا من العرس وقبل أن يحل موعد كتابة المقالة دخلت في مأتم ضخم شمل الوطن كله . عشت صدمة ما زالت ترزح علي صدري باكتئاب مقيم . وجدت نفسي عاجزا عن التعبير عن مشاعر الفرح الذي كان لثلاث ليال قصار بين أجانب محبين لنا علي بعد آلاف الكيلومترات منا . أعتقد أنهم اليوم مشفقون علينا وحزاني من أجلنا بعد أن خمدت مشاعر الفرح عندهم وعندنا . ولا أعرف متي تعود ؟
أكتب هذه الكلمات مساء ولا أعرف ماذا سيأتي به الصباح . ما تكاد النيران تنطفئ في جسد الوطن حتي تشتعل من جديد . من يشعل النيران مصريون، ومن يحاولون إطفاءها مصريون أيضا . نحن المجرمين ونحن الضحايا . تجل فاضح علي الأرض وفي وسائل الإعلام لمعني عبارة شائعة : اختلط الحابل بالنابل. إنها الفوضي . كل الكلام تمت كتابته وإذاعته . فماذا بقي من كلام ؟ أعتقد أنه بقي ما لم يكن في الحسبان . وهو أن هذا البلد ذا الخمسة آلاف سنة حضارة، أو أكثر أو أقل، تم تجريف سطحه البشري من كثير جدا من كفاءاته البشرية . تجريف متعمد ومخطط تم تنفيذه بوسائل عدة . منها كل وسائل الفساد والإفساد التي أدت إلي الهجرة وانتشار المخدرات والأمراض . هذه هي الجريمة الأكبر التي تم ارتكابها خلال سنوات سابقة. أدت السياسات التي تمت ممارستها إلي إفقار عام في البطون، والأهم في عقول، ومن ثم أخلاق، البشر. هذا هو تفسير حالة الفوضي التي نعيش فيها واشتعال كل هذه الحرائق في جسد الوطن يوميا .
الأخطر هو افتقاد الثورة والوطن إلي قيادة تاريخية كان عليها أن تظهر في مثل هذا الوقت العصيب في حياة أية شعب. ثورة مصر بلا قيادة تاريخية جادت بها ثوراتنا السابقة . هذا هو أخطر ما نعاني منه ونعيش فيه . مصر ليست في حاجة إلي قيادة تاريخية فحسب، ولكنها في حاجة أيضا إلي نخب تاريخية تساعد هذه القيادة في جميع المجالات وبخاصة في مجالات الفكر والعمل . قيادة ونخب تقودان الثورة ومصر إلي بر الأمان، وإلي القرن الحادي والعشرين الذي لم ندخله بعد . قيادة ونخب تليقان بتاريخ مصر الذي نتشدق به كثيرا في الكلام وفي الأغاني .
مصر في حاجة إلي من يوحد الشارع لمصلحة الوطن . من يقنع شبابا ثائرا بالالتزام بسلمية الثورة التي نادوا بها من لحظاتها الأولي . لا يمكن أن يكون الرد علي جريمة ستاد بورسعيد الكبري هو تدمير مديريات الأمن والقضاء علي وزارة الداخلية . سقوط وزارة الداخلية معناه سقوط الدولة، وهذا يصب في مصلحة أعداء الثورة . نريد إعادة بناء الداخلية لتحمي الشعب وليس تدميرها . هناك أعداء للثورة بوعي أو بغير وعي مندسون بالفعل في الصراع الدائر حول مباني وزارة الداخلية وبعض مديريات الأمن . ولا يمكن اعتبار حرق مبني مصلحة الضرائب عملا ثوريا . كما هو من الواضح قيام البلطجية، بحرق أقسام الشرطة والإفراج عن تجار المخدرات والمجرمين .
مصر في حاجة إلي صوت العقل يعلو فوق هدير الحناجر . فمن يرفع صوت العقل في سماء مصر وعلي أرضها الآن ؟ لدي الثوار كل الوسائل السلمية لمواصلة الضغط من أجل تحقيق أهداف الثورة وتغيير النظام . فلنبتعد عن تخريب ما نملكه . إنني حزين لأن مصر تفقد كثيرا من شبابها في معارك الشوارع بين مصريين ومصريين. كأنها حرب أهلية بين الشباب وقوات الأمن . وكلهم ضحايا . حزين من أجل آلاف من المتظاهرين وجنود الشرطة وضباطها الذين أنهكتهم معارك دامية . حزين من نزيف الدم وتدمير المباني والممتلكات التي هي ملك الشعب . هذا الشعب هو الذي يدفع ثمن كل قطعة أثاث وكل قطعة سلاح مهما كان رخيصا . هذا الشعب هو الذي يدفع مرتبات كل العاملين في الداخلية . ومع كل حالة تدمير تصيب مبني، ومع كل إصابة يصاب بها مواطن ثائر أو بلطجي أو جندي يدفع الشعب ثمن علاجه . وحزين لأننا وضعنا كل جنود وضباط الشرطة في خانة أعداء الشعب . جمعنا العاطل والباطل . وكأن كل هؤلاء الجنود والضباط ليسوا منا . وكأن ليس فيهم شرفاء وطنيون .
هذا كلام بالعقل، وليس بمشاعر الغضب الكاسحة التي تغطي رؤية الحقيقة . وبالعقل ابتعدت متعمدا اليوم عن الحديث عن كارثة ستاد بورسعيد . لقد ظللت منذ وقعت وحتي الآن أشاهد عشرات من شرائط الفيديو وبرامج التليفزيون وأقرأ كل ما كتبته الصحف وصفحات الإنترنت عن هذه الكارثة لمحاولة فهمها . هي كارثة غير مسبوقة لا في مصر ولا في غيرها علي حد علمي . وهي تأتي في سياق طبيعي يؤدي إليها . ومع ذلك لا يجب علي أي كاتب أو غيره أن يقيم من نفسه قاضيا يحقق في دقائق ويصدر الحكم . يجب أن تأخذ العدالة الطبيعية مجراها وتعرض علينا الحكم في النهاية مقرونا بأسبابه . ويجب علي كل من شارك في الجريمة أن يأخذ عقابه المستحق .
الأهم هو أن يعمل الجميع علي عدم تكرار هذه الكارثة . يجب أن نتعلم من " جرائمنا " وليس فقط من أخطائنا . الحيوانات وحدها التي لا تتعلم من الأخطاء، فما بالنا بالجرائم . ويجب أن يكون أول من يتعلم من هذا وذاك هم المسئولون . كل في موقعه وحسب طبيعة عمله . وأنا أمنع نفسي حالا من الانجرار وراء دور المحقق أو القاضي .