هذه أول قضية عيب في الذات الملكية تنظرها المحاكم المصرية.. وقعت أحداثها في عهد الخديو عباس حلمي الذي حكم مصر فترة طويلة، امتدت من عام 2981 إلي منتصف عام 4191، وجمعت هذه الفترة بين الأبيض والأسود في مضمار السيادة القومية، وإلهاب الشعور الوطني، وامتازت بالمحاولات الجريئة التي تبناها الفكر المصري في سبيل الانطلاق وشق الطريق إلي النور، وبالمعارك القلمية التي خاضتها الصحافة لتقرير حريتها، كما امتازت هذه الفترة بمكانة مصر وزعامتها الروحية، وكانت ملجأ لأحرار الفكر من أقطاب العرب الذين كانوا يلوذون بها هرباً من الظلم والاضطهاد الذي كان ينشره أتباع الامبراطورية العثمانية. ومما لا شك فيه أن الخديو عباس حلمي عندما اعتلي العرش شجع النزعة الوطنية، وأيد الزعماء ضد الاستعمار البريطاني، لتكون هذه النزعة بمثابة دعامة قوية يستعين بها في تثبيت عرشه، لكنه عندما أحس خطورة الحركات الشعبية ونموها واشتدادها، تنكر للنزعة الوطنية، وسعي إلي عقد مهادنة بينه وبين أقطاب الاحتلال البريطاني. استهل عباس حلمي حكمه وهو دون الثامنة عشرة، وكانت مصر لاتزال تحت أعباء الاحتلال البريطاني، وتنوء تحت أثقال الظلم والاضطهاد، وأراد عباس أن يزيل ما كان عالقاً بالأذهان من موقف والده الخديو توفيق الذي كان الوطنيون يسيئون الظن به، لأنه لجأ إلي الأسطول البريطاني، وهو يضرب بمدافعه مدينة الاسكندرية، ووقف في ميدان عابدين تحت العلم البريطاني يستعرض جنود جيش الاحتلال، وكان الشعب يعيش في جهالة وفقر وجوع. وأخذت الهوة تزداد اتساعاً بين الخديو وزعماء الشعب إلي أن كانت سنة 7981، وعاد الخديو من مصيفه بالاسكندرية إلي عاصمة ملكه، فظهرت صحيفة »الصاعقة« الأسبوعية الواسعة النفوذ والانتشار لصاحبها أحمد فؤاد، وقد تصدرت صفحتها الأولي قصيدة تهنئة بمناسبة عودة الخديو للقاهرة مطلعها: قدوم ولكن لا أقول سعيد ومُلك وإن طال المدي سيبيد ثم يصف الشاعر كراهية المصريين لعباس، وينتقل لظلم أبيه وجدوده من قبله فيقول: تذكرنا رؤياك أيام أنزلت علينا خطوب من جدودك سود وسيق عظيم القوم منا مكبلاً له تحت أثقال القيود وئيد أعباس ترجو أن تكون خليفة كما ود آباء ورام جدود فياليت دنيانا تزول وياليتنا نكون ببطن الأرض حين تسود! واهتزت مصر من أقصاها إلي أقصاها لهذه القصيدة، وتحدثت عنها الصحف الانجليزية، خاصة صحف لندن، وقام القصر وقعد، فأمر ناظر الحقانية »النيابة« باعتقال صاحب جريدة الصاعقة، وسرعان ما قبض علي أحمد فؤاد، وأثناء التحقيق معه اعترف بأنه كاتب القصيدة وأنه كان في نيته أن ينشرها مرة ثانية وثالثة ورابعة لتعميمها، وأنه يأسف لأنه تأخر في طبعها، فلم تنشر في نفس اليوم الذي عاد فيه الخديو إلي القاهرة، ولكنه عاد وغير أقواله وقال إن السيد علي يوسف صاحب »المؤيد« هو الذي سلمه القصيدة ومنحه مالاً لطبعها علي أن يتهم أصحاب المقطم بأنهم هم الذين كلفوه بطبعها، ثم زعم في اليوم التالي بأن صاحب المؤيد أوعز إليه باتهام سماحة الشيخ البكري مع أصحاب المقطم بأنهم دفعوه إلي ذلك، وحارت النيابة العامة في تناقض أقوال المتهم،، فاعتقلت صاحب المطبعة التي طبعت فيها »الصاعقة« فاعترف بأن أحمد فؤاد هو الذي جاءه بالقصيدة وكان برفقته السيد مصطفي لطفي المنفلوطي فقبض علي الأخير، فاعترف بأنه ناظم القصيدة ولكنه لم يكن ينوي نشرها. وأحيل المتهمون الثلاثة إلي المحاكمة، ومهما يكن سلوك أحمد فؤاد في التحقيق، فإن التاريخ يسجل له أجرأ وقفة لصحفي في عصره، فقد نشر أصل القصيدة، وقال في دفاعه: ليس في هذه القصيدة قصد سييء، ويدل علي ذلك أنها خالية من كل سب وطعن غير لائق، وهل القول بأن الرعية لم تسر بقدوم الخديو جناية عظمي، فإن محبة الرعية لملكها أمر اختياري، وما من ملك إلا وله من ينتقد أعماله ولا يسر بقدومه، والملك لا يستطيع إرغام الرعية علي محبته لأنه ليس ملكاً للقلوب. وقال: أنا لست أول من جاهر بمظالم الأسرة الخديوية، ومن ذلك ما نشرته أشهر صحف مصر عن الخديو سعيد وكيف أنه أراد أن يجرب مدفعاً جديداً استورده الجيش المصري من فرنسا، فنصب المدفع في أحد الميادين العامة، وهنا اقترب منه أحد رجال الحاشية وسأله: هل يأمر أفندينا بأن نتمهل قليلاً حتي يمر الناس، فكان جوابه: اطلق النار، ليس لدي وقت، فنحن لم نستلم الناس بالعدد!! وأضاف أحمد فؤاد في دفاعه: إن الخديو اسماعيل ينظر إلي مصر كأنها ضيعة خاصة به، فكان يشق الشوارع ويجمل الميادين التي يمر بها موكبه فقط، وكانت الأموال التي تجبي من عرق الفلاحين المساكين ينفقها علي ملذاته وشهواته وزخرفة قصوره دون أن يعني بالإنفاق علي الشعب الكادح المظلوم، وأنه حاصر مرة بلدة بالوجه القبلي وضربها بالمدافع لمجرد غضبه علي رجل واحد لجأ إليها هرباً من اضطهاده!! ثم انتقل أحمد فواد إلي ضرب الأمثلة عن الديمقراطية في أوروبا، فقال: إن ملكة بريطانيا العظمي فيكتوريا وهي أعظم شأناً من الخديو، مر موكبها في أحد الشوارع، فلم يرفع أحد البريطانيين قبعته تحية لها، فرفع عليه أحد النبلاء قضية أمام المحاكم باعتبار أن ما فعله فيه إهانة للملكة، فاعترف الرجل أمام المحكمة بأنه لم يرفع قبعته لأنه لا يحبها، ولا يريد أن يحترمها، فبرأت المحكمة ساحته. واختلت المحكمة للمداولة وحكمت ببراءة صاحب المطبعة، والحكم علي أحمد فؤاد بالسجن عشرين شهراً وثلاثة آلاف قرش غرامة.. والحكم علي الأديب مصطفي لطفي المنفلوطي بالسجن اثني عشر شهراً وألفي قرش غرامة. وكانت هذه القضية فاتحة عهد من الجرأة الفكرية والدفاع عن حرية الرأي.