رغم أنني من المؤمنين جدا »بالتخصص« وتحديدا في دوائر »العلوم« التطبيقية أو الفلسفية أو العلوم الانسانية الأخري، لهذا وجب علي أن اعتذر في البداية الي علماء واساتذة الطب النفسي والعصبي بسبب عنوان هذا المقال الذي يقع في تخصصهم، لكنه مما يشفع لي، أن هذا الموضوع يجمع بين علوم كثيرة لا يقوي »الطب« وحده عليها.. وإنما يداخلها علوم أخري انسانية منها المنطق والقانون والفلسفة والاجتماع التي اقترب منها علميا وأهواها قراءة.. ولان حالة المرض النفسي التي اقصدها، تلك الحالة التي يقول عنها علماء واساتذة الطب النفسي والعصبي.. هي حالة »الاختلال بالاضطهاد« أو »حالة أوهام الاضطهاد« وهو ما يعبر عنه علميا بDelesion of persecution التي يتوهم فيها المريض ان هناك جريمة أو مؤامرة ضده يؤدي به الي الهياج والانفعال والقيام بحركات عصبية حادة واطلاق الاتهامات القاسية في كل الاتجاهات.. واختلاف الادلة لاقناع نفسه بها علي غير الحقيقة. ويؤكد لنا اطباء علم النفس ان هذا كله يتوهمه المريض وفي مخيلته.. لان ما يرويه ويردده وينفعل به. لا يستقيم مع المنطق.. وتلك الحالة المرضية تسبب له الهياج والتصرفات العصبية والاتهامات واطلاق الحكايات والروايات والقصص الوهمية لاقناع الغير بها وكلها تصب في تصور خيالي علي أنه مضطهد ومستهدف، وأن الجميع يتآمرون عليه ويوجهون له الاتهامات ظلما ورغبة في الانتقام منه وتصفيته.. وكل ذلك لا يستقيم مع المنطق!!. ويظل المريض نفسيا بحالة »الاوهام بالاضطهاد« أو »الاختلالات بالاضطهاد« حتي اثناء العلاج، بل يتصور أن المستشفي ذاته تتآمر عليه، وأن الطعام الذي يقدم له يوضع السم فيه للتخلص منه، بل يتخيل ان الطبيب المعالج قد أتي إليه لعلاجه قد حضر ليتم الجريمة أو يخفي معالمها وأدلتها حتي لا ينكشف امرها. وفي كل مرة يكشف اسلوبه وحواره وتصرفاته، قبل العلاج واثنائه، عن حالة عصبية مرضية.. تمتليء بالاوهام التي لا تستقيم مع »المنطق« لهذا كانت حالة المرض مستمرة فإذا عادت اليه استقامة المنطق في حواره وكلامه وتصوراته.. واتسم بالاعتدال والموضوعية والعقلانية اصبحت الحالة عادية normal واصبح الشخص طبيعيا. وعنذئذ يكون قد من الله عليه بالشفاء لانه قد عاد اليه المنطق في التفكير وفي الحديث والتصرفات!!. ولهذا قال لنا علماء المنطق.. أن المنطق Logic هو العلم الذي يبحث عن المباديء العامة للتفكير الصحيح ومجاله الفكر الانساني، ليجعله صحيحا وخاليا من التناقض.. ويعتبر ارسطو وسقراط وغيرهما من الفلاسفة السابقين عليهما، أنه بالمنطق وحده يمكن احياء امثلة جزئية لكل من الكليات مثل العدالة وغيرها وأن المنطق ليس ذلك الجدل السفسطائي والاقيسة السفسطائية!. ولان المنطق Logic يعني الفعل أو الكلام.. ويعني بالانجليزية وبالعربية النطق ولا يعني مجرد خروج الكلام من فم المتكلم.. وإنما يدل علي ادراك الكليات وهي أمور عقلية خالصة تدل علي الكلام والعقل. كما هو الحال في اللفظ اليوناني Legos لهذا قال لنا العلماء أن المنطق هو علم قوانين الفكر.. ومدخل الجميع العلوم. فاعتبره ابن سينا في كتابه النجاة عام 3331ه انه- أي المنطق- آله تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ فيما يتصوره.. ويوصله الي اعتقاد الحق بإعطاء اسبابه ونهج سبله. كما يقول لنا علماء النفس ايضا ان هذه الحالة هي ذاتها التي تسبب الرياء والنفاق المفرط المصحوب بالكذب. لانها ايضا صورة اخري من صور الاختلال بالخوف من الاضطهاد، والمرجعية في كل ذلك هو المنطق« فإذا كانت التصرفات لا تستقيم مع المنطق.. فإن الحالة تكون حالة مرضية وتحتاج الي علاج نفسي متخصص، واذا استقامت مع المنطق والاعتدال والموضوعية والعقلانية كانت الحالة عادية normal وكان الشخص طبيعيا وليس مريضا نفسيا. ويقول لنا علماء الطب النفسي ان كل حالة انفعال أو هياج او تصرفات او نفاق أو رياء لا تستقيم مع المنطق هي ايضا حالة مرضية.. وان اسبابها تتعدد.. منها »تهيؤات بالاضطهاد« Delusion of persecution وقد تكون حالة اضطهاد بالفعل.. وعلينا ان نحرص علي تعقب تلك الحالات ومواجهتها وعلاجها.. حتي لا تتسبب في انتشار حالات المرض.. وتكاثر عدد المرضي.. وعندئذ نتحمل مسئولية العلاج وضياع الوقت والجهد والمال. ولن يكون ذلك الا بترسيخ قواعد الحرية والعلانية.. وتبادل المعلومات في شفافية وفي النور. والخطير في الامر اننا اذا ما نظرنا حولنا نجد تزايدا مفزعا لتجاوز حالات الاتهامات.. والانفلات وتخيل التآمر والتخوين.. مصحوبا بالانفعال والهياج.. والنفاق والرياء.. والكذب المفرط.