في مقالنا السابق- قدمت صورة عامة ومجملة للمناخ الذي ساد اول انتخابات ديمقراطية تعددية مركبة.. غير مسبوقة في السودان الشقيق.. وربما ايضا غير مسبوقة في العالمين العربي والافريقي.. وذلك حسبما رصدته - في حيدة وتجرد مطلقين- عيون البعثة المصرية للمراقبة الدولية.. التي شهدت مع الايام الاولي للاقتراع.. انه يجري في استقامة ونزاهة وسلامة.. كما اعلنت ذات الشهادة- توافقا وليس اتفاقا- البعثة الامريكية »برئاسة كارتر«.. وتبعتها بعثة الاتحاد الاوروبي.. وبعثات أخري عديدة .. بيد انني لست ادري ما سر هذا الحقد الدفين الذي يكنه كثير من الغرب »أهل الشمال«.. نحو أمم الشرق »أهل الجنوب«.. اذ يأبون إلا أن نكون - في مخيلتهم- متخلفين.. ويحزنهم.. أن نكون - علي أيه حال- متقدمين متحضرين.. ليظل التقدم والتحضر هو شأنهم وحدهم دون سواهم..!! فهاهم بعد ان انطقهم الله- ابتداء بشهادة الحق للعملية الانتخابية السودانية.. اذهم- أنتهاء- ينكصون علي اعقابهم.. محاولين التشكيك في نزاهتها واستقامتها.. متذرعين ببعض.. وكأن هؤلاء وأولئك الذين يتباهون بديمقراطيتهم ويتشدقون بأنهم دعاتها وحماتها في كل أرجاء الارض.. كأنهم يستكثرون علينا ان نشهد ميلاد ديمقراطية حقيقية في السودان الشقيق .. وكأنما هم »قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر«. أعود.. إلي تفصيل بعض ما جاء موجزا في المقال السابق لأسجل بعضا من ملامح الانتخابات السودانية: - ان الملمح المشهود.. لمن كان يجوب مدن السودان وقراها قبل أيام الاقتراح وأثنائها.. هو أن السودان يعيش حياته العادية.. دون ان يكون ثمة في الحال أو في الاستقبال شيء غير عادي.. ولا يكاد الإنسان يشعر أو يدرك ان انتخابات توشك ان تجري .. أو هي تجري فعلا.. الا حين يقترب من مكان فيه مركز أو لجان للاقتراع.. هنا فقط يعلم ان في السودان انتخابات. - حول مراكز الاقتراع.. خاصة - في اليومين الاول والثاني- كانت الحشود الكبيرة من السودانيين والسودانيات .. في إقبال وتدفق منقطع النظير .. مستبشرين كأنهم في عرس.. هادئين مطمئنين .. وكأنهم في معبد.. ينتظرون الصلاة.. وخفتت الاصوات فلا تكاد تسمح إلا همسا. - رغم التجمعات الكبيرة للناخبين والناخبات.. لم يكن لقوات الامن- الشرطة- اي تواجد بينهم.. أو حتي قريبا منهم.. بل كانوا - اي رجال الشرطة- متواجدين بعيدا.. لايقتربون من مراكز الاقتراع إلا حال استدعائهم.. ولم يتصادف .. مع مرورنا علي مئات اللجان.. ان احتاج الامر إلي استدعاء اي من رجال الشرطة. - مع بداية عمليات الاقتراع كان السودانيون.. ينتظمون تلقائيا.. دون ان ينظمهم احد.. في صفوف »طوابير« واحدا للرجال.. وواحدا للنساء.. وثالث لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.. الذين كان الجميع يقدمونهم - طواعية- علي انفسهم.. وكل ذلك يجري في هدوء تام.. دون أدني جلبة أو صخب أو ضوضاء. - كان للمرأة السودانية حضور كبير.. مع الوعي السياسي الرفيع..خاصة وقد خصص لها المشروع نسبة 52٪ من مقاعد البرلمان.- رغم كثرة عدد بطاقات التصويت »8 بطاقات في الشمال و 21 بطاقة في الجنوب« فلم يكن الناخب السوداني مرتبكا محتاجا إلي معونة أو أرشاد من احد.. فقد كان يعرف طريقة جيدا إلي صنادق الاقتراع الثلاثة بأخذ بطاقة الصندوق الاول ويتجه إلي الساتر يملأها ثم يضعها في صندوقها.. وهكذا يفعل مع الصندوق الثاني ثم الثالث.. كل ذلك في رتابة وهدوء.. وكأن كل ناخب أو ناخبة يعزف وحدة ذات السيمفونية التي يعزفها غيره. - الصناديق الزجاجية الشفافة.. كانت موضوعة- صفا واحدا-في وسط كل غرف الاقتراع تري من جوانبها الاربعة ولا يتقدم لها أحد- مطلقا - إلا الناخب أو الناخبة والسواتر في كل غرفة تتراوح بين اربعة وثمانية. - موظفو لجان الاقتراع ومعظمهم من النساء.. مستقرون علي مكاتبهم الاربعة في كل لجنة .. لايغادرونها.. وهم في ملابسهم المميزة.. يعرفون مهمتهم.. يؤدونها في صمت وأدب جم.. ولايتدخل احدهم في عمل غيره.. ولاينطقون الا بالتحية.. أو الجواب علي سؤال .. وذلك بعد التحقيق من شخصية كل ناخب أو ناخبة. والتوقيع مقابل اسمه.. وغمس أصبعة في الحبر الذي لايتغير. - أمام لجان الاقتراع.. مستحيل ان يتخطي أحد غيره في الصف »الطابور« ولا استثناء لأحد كائنا من كان.. الا اذا كان من ذوي الاحتياجات الخاصة.. ولما كان التصويت هو حق لرجال القوات المسلحة والشرطة مثل سائر المواطنين.. فلست انسي أبدا مشهدا حين انهي إلي احد رفقائي من السفراء.. ملاحظة طابور طويل بطيء الحركة يقف فيه ضابط برتبة كبيرة.. بالصدفة كان يتقدمه جندي بسيط حسب دوره وتباطأت حركة الطابور ثم توقفت..لأكثر من ربع ساعة دون ان يتململ الضابط..أو يترك مكان أو يحتج .. بأية صورة.. ولما دخلنا اللجنة للاستعلام وجدنا أن لديها عذرها.. إذ نفدت بطاقات التصويت.. وكانوا في انتظار غيرها.. وبعد تحرك الطابور وبعد الانتظار الطويل.. اكتشفنا بالمصادفة ان الواقف فيه بين سائر الناخبين هو ضابط كبير.. برتبة فريق قيل لنا إنه.. رئيس أر كان الجيش السوداني الباسل. وأخيرا.. ألا ترون معي ان الانتخابات السودانية.. هي نموذج ينبغي ان يحتذي.؟ كاتب المقال: كبير المراقبين الدوليين