قد يكون في الميزانية الجديدة للدولة ما يرضي الحكومة عن أدائها ، وما يجعل مؤيديها في البرلمان يشيدون بسياساتها. و لكن بالنسبة لأمثالنا من عباد الله الغلابة فإن من حقنا أن نقلق حين يصل العجز في ميزانية الدولة إلي 113.8 مليار جنيه بنسبة 8.30 ٪ من الناتج القومي. و حين تكون وسيلة الحكومة في التعامل مع هذا العجز هي الاستدانة التي تصل هذا العام إلي 187.6 مليار جنيه حتي تستطيع تغطية العجز و أيضا سداد أقساط قروض مستحقة قدرها 82 مليار جنيه ، فإننا بلا شك أمام وضع يثير القلق، خاصة حين نري ما يحدث حولنا في أوربا و كيف وصل الحال بدولة كاليونان إلي حافة الإفلاس بسبب تراكم العجز و الديون ، لولا تدخل دول الاتحاد الأوربي التي تحاول منع الكارثة من اجتياح دول أوربية أخري كأسبانيا والبرتغال وايرلندا وغيرها . تأثير ما يحدث في أوربا سيؤثر فينا بلا شك فهي الشريك التجاري الأكبر لنا ، و لابد أن الحكومة تستعد للتعامل مع سلبيات الوضع هناك ، ولكن الأهم أن نستوعب الدرس و أن نراجع السياسات التي أدت إلي هذه الأوضاع واضعين في الاعتبار أمرين أساسيين : أولهما أننا لا نملك سنداً قوياً عند الحاجة كما وجدت اليونان في دول الاتحاد الأوربي ، و بالتالي فعلينا أن نعتمد علي أنفسنا وان ندبر أمورنا كما ينبغي . والأمر الثاني أن العلاج الأساسي للازمة في أوربا يقوم علي أساس أن الدول والمواطنين هناك عاشوا لسنوات طويلة في مستوي يفوق دخلهم ، وتمتعوا برفاهية علي حساب الآخرين أو بالاستدانة منهم .. وهو وضع بعيد عنا ، حيث نصف الشعب يعيش تحت خط الفقر ، ومعظم الباقين يعيشون بالقرب من هذا الخط، ولا ينعم بالرفاهية إلا الفئة القليلة المحظوظة التي راكمت الثروات بالطرق المشروعة و غير المشروعة ، و التي استحوذت علي معظم ما تحقق من عائد التنمية في السنوات الأخيرة . في أوربا يبدو منطقيا الحديث عن سياسة للتقشف مع مواطن يتمتع بالتعليم المجاني الجيد و الرعاية الصحية ويحصل علي الأجر الكافي . أما عندنا فالأمر يختلف و المواجهة تحتاج لتعديل شامل و ضروري للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدنا عليها لسنوات و قادتنا لهذا المأزق . وهي السياسات التي هجرها العالم كله بعد أن ثبت فشلها ووضعت العالم كله في أزمة مالية واقتصادية شاملة . ولكن بدلاً من هذه المراجعة المطلوبة يبدو الإصرار علي تحميل الفقراء العبء مرة أخري بعد أن تحملوه لسنوات طويلة في إطار سياسة تدلل الأغنياء و تمنحهم الامتيازات باعتبار أنهم سيقودون قطار التنمية ، فإذا بهم يكتفون بركوب طائراتهم الخاصة أو إعدادها للإقلاع عند اللزوم !! إن الحديث يدور مرة أخري حول الدعم الذي يبقي فئة كبيرة من الفقراء علي قيد الحياة ، و بالطبع فلا أحد يطالب بدعم الأغنياء إلا الحكومات التي انحازت لهم علي مدي ثلاثين عاما منذ بدء سياسات الانفتاح السبهللي ، ولكن التجربة حتي الآن علمتنا أن الحديث عن إجراءات لضمان وصول الدعم لمستحقيه ينتهي إلي قرارات تمس الفقراء و محدودي الدخل، بينما يعرف الأغنياء كيف يستفيدون منها او يتهربون من توابعها ، كما حدث قبل ذلك حين قررت الحكومة علاوة استثنائية التهمت ضعفها إجراءات رفع الأسعار التي صاحبتها. ومع الحديث عن الدعم ، يجئ الإجراء الأخير بترك الدولة المرافق الأساسية للاستثمار الخاص في الطرق والمياه و الكهرباء و الصرف الصحي ، وهو الإجراء الذي سيرفع الأسعار بلا شك، و الذي قد يفتح الباب - في مرحلة قادمة - للتخلي عن المرافق القائمة الآن وخصخصة الخدمات العامة .. وهو الإجراء الذي فشل في العالم كله وبدأت العودة عنه قبل أن تنهار هذه المرافق الأساسية في ظل قطاع خاص نعرف ماذا يفعل عندنا في الجامعات الخاصة والمستشفيات الاستثمارية ، وهو ما ينتظرنا في المرافق الحيوية كالماء والكهرباء حين يستولي عليها. إن الدكتور علي الدين هلال القيادي البارز في الحزب الوطني يعرض في " أهرام " السبت الماضي لتقرير هام للجنة الشئون المالية و الاقتصادية بمجلس الشوري عن حقيقة التفاوت توزيع الأعباء الضريبية بين الفئات الاجتماعية، ويبين أن الدولة و المؤسسات العامة و العمال والموظفين هم الذين يتحملون العبء الأساسي للضرائب العامة، بينما يتهرب أصحاب النشاط التجاري والمهنيون و تعجز الدولة عن تحصيل ضرائب متأخرة تصل إلي 54 مليار جنيه و تترك المضاربين في البورصة بعيداً عن الضرائب !! هذا يعني أن جزءاً من السلطة يدرك حجم الخطر في ترك الأمور تسير في الطريق الخطأ و تضرب العدالة الاجتماعية في مقتل. و لكن الأمر لا ينبغي فقط أن يقف عند هذا الحد، فلابد من مراجعة عامة للسياسات الاقتصادية طالبنا بها مراراً وسنظل نطالب بها.. فلم يعد مقبولاً استمرار تدليل الفئة القليلة التي تستولي علي كل شئ و تزداد ثراءً علي حساب الأغلبية التي تزداد معاناتها. ولم يعد مقبولاً ألا تعود الضرائب التصاعدية لتعيد بعض التوازن المفقود في المجتمع. ولم يعد مقبولاً ان تغض الدولة الطرف عما تم نهبه عن طريق الاستيلاء علي أراضي الدولة و تحقيق الثروات الطائلة من إعادة بيعها ، و لم يعد مقبولاً أن يحصل المحظوظون علي عشرات الآلاف من الأفدنة بسعر لا يتجاوز بضع مئات من الجنيهات للفدان علي أساس أن تتحول إلي أرض زراعية تضيف للناتج القومي وتساعد في توفير فرص عمل، فإذا بها تتحول إلي منتجعات سكنية يباع فيها المتر ( وليس الفدان ) بآلاف الجنيهات تدخل جيوب المحظوظين بالاحتيال ومخالفة القانون . ولعلنا مازلنا نذكر تلك الضجة الهائلة التي أثارها في العام الماضي واحد من هؤلاء واستغاثاته في وسائل الإعلام لأن الأجهزة المسئولة أوقفت مشروعاً له علي طريق مصر - إسكندرية الصحراوي بعد ان حوله من مشروع زراعي إلي منتجع سكني ، ثم كيف اختفت الاستغاثات وتوقف الضجيج بعد أن انتقلت ملكية الأرض لبعض أصحاب النصيب أو أصحاب النفوذ الذي وصفتهم قيادة سياسية لها مقامها بأنهم " عصابة ".. و مع ذلك مازالت العصابة تواصل عملها وتسعي لاستغلال نفوذها في مضاعفة النسبة المخصصة للبناء في هذه الأراضي بعد أن استطاعت بنفوذها تسوية الأوضاع القانونية لها ، فتضاعفت أسعار، و زادت الثروات الحرام ، و ضاعت علي الدولة بضعة مليارات تضاف لمئات المليارات من الجنيهات التي ضاعت في هذا البند ، و التي دخلت جيوب أصحاب النصيب الذين يتحدث بعضهم الآن بكل حماس عن ضرورة ترشيد الدعم و يتباكون علي زيادة العجز في ميزانية الدولة .. و كأنهم ليسوا جزءاً من المشكلة ، بل الجزء الأساسي فيها!! آخر كلام في الوقت الذي نحاكم فيه عصابة تزعمها لواء شرطة سابق بتهمة تسهيل بيع أراض بسيناء لحساب أوربيين يحملون الجنسية الإسرائيلية بالمخالفة للقانون. نترك الباب مفتوحاً أمامهم للاستيلاء علي عمارات وسط القاهرة.. مطلوب إجراء قانوني يمنع الكارثة ويوقف الشركات المشبوهة عند حدها !! بعد أربعة أيام كاملة من القبض علي رجل الأعمال مجدي يعقوب بتهمة الرشوة، و الأمر بضبط وإحضار المتهمة الثانية للتحقيق أمام النيابة.. انفتحت أمامها أبواب مطار القاهرة لتسافر إلي لندن . و ليلحقهما في اليوم التالي زوجها ( وهو محام رجل الأعمال المتهم ) لإقناعها بالعودة (!!) و هي مهمة ليست سهلة بالطبع ، و قد تحتاج لسفر باقي العائلة و الأهل و الجيران، خاصة إذا كانت التأشيرة جاهزة والطريق أمان!!