لماذا لم تعرف مصر الأمن والأمان بعد الثورة سوي مرتين فقط: يوم الاستفتاء وأيام الانتخابات؟! لماذا، فجأة نكتشف المعدن الأصيل للشعب المصري في طوابير الانتخابات؟ وهل علينا أن نجعل السنة كلها انتخابات حتي نعيش الأمن والأمان وحتي ينظر العالم إلي تحضر المصريين طول السنة؟! عشية الانتخابات كانت المعارك قد بدأت في الزاوية الحمراء وطوال أسبوع كانت الداخلية تبدو ميليشيات خارجة علي القانون لا تجد من يضبطها. ولم تنته موقعة شارع محمد محمود إلا بوساطات مدنية وكأننا في بيروت زمن حربها الأهلية. كيف اختفت نسبة الخسة الموجودة في الشعب المصري هكذا فجأة؟! والخسة علي أية حال موجودة بيننا مثلنا مثل كل شعوب الأرض، ولا أقول (أعظم شعوب الأرض) فكل الشعوب فيها العلماء والسفهاء والرهبان والبلطجية والعسكر والحرامية وكل شيء. ونحن مثل كل شعوب الأرض لا أعظم ولا أدني، وعلينا أن نتحسس رؤوسنا ونتحسس جيوبنا عندما نسمع كلمة مدح من قبيل إننا أعظم شعب أو أعرق شعب أو أذكي شعب. عندما نستمع إلي كلمة من هذه الكلمات التفخيمية علينا أن نعرف أننا بصدد عملية سرقة كبيرة. استراتيجية السرقة تحت غطاء من قنابل المديح استراتيجية تبدو مرتبطة بنظام يوليو منذ حركة الضباط في 2591 ومرتبطة أكثر بنظام حسني مبارك عندما تحولت السلطة إلي إدارة كبيرة للإنشاء والبلاغة الفارغة من المعني، لكنه في الحقيقة تقليد قديم يمكن رده علي الأقل إلي بداية الحركة النيابية في مصر. علي أية حال، لابد أن نجد تفسيرًا منطقيًا للتحول العجيب في طبيعة الشعب المصري الذي ظل طوال عشرة أشهر يتردد بين الميدان والمشرحة، بينما وقف مؤدبًا متحضرًا في يوم الاستفتاء وفي يوم الانتخاب بلا نقطة دم واحدة. لقد ولي زمن المعجزات، ولا يمكن لبلطجي الليل في الزاوية والوايلي أن يصبح فجأة مواطنًا عظيمًا من بين أفراد هذا الشعب العظيم ولا يمكن لميليشيات الترويع أن تتحول صدفة إلي جهاز للأمن. المنطقي أن هناك يدا تفلت الأمن طوال الوقت وتضبطه عندما تريد. اليد القوية وليست عظمة الشعب هي التي ضبطت سير اقتراع تمتع فيه الإسلاميون بجميع أنواع الاختراق لقوانين الدعاية. ولن نعرف بدقة ما ستسفر عنه العملية من نتائج إلا بعد المرحلة الثانية وإجراء حسبة برما بين القوائم والفردي ومعرفة حجم كل فصيل وإن كانت النتائج الأولية تشير إلي حيازة القوي المتأسلمة للثلثين أو لستين بالمائة علي الأقل. وهي نتيجة يجب أن تحترم، لأن الشعب خط أحمر كما يقولون. وقد بدأ ببغاوات التوك شو يصدعوننا بوجوب احترام إرادة الشعب. واحترام إرادة الشعب واجب لا جدال فيه، لكن هذا الحق يراد به باطل. والباطل هو الوقوف عند النتيجة التي أفرزتها الصناديق والقفز علي الغش السياسي الذي تمت ممارسته قبل الاصطفاف في طوابير الاقتراع. العمارة حسنة التشطيب والشعب اختار لون السيراميك وأنواع المقابض، لكن أساس العمارة وضعه المقاول من الحديد الخردة والرمل والجبس. الشعب العظيم اصطف في الطوابير وقالت نسبة عشرين بالمائة منه نعم للسلفيين، وسنحترم من قالوا نعم لهؤلاء علي الرغم من أننا نعرف جميعًا أنهم لم يكونوا مع الثورة ولم يحاربوا دفاعًا عن دنيا المصريين أو من أجل تحسين حياتهم السوداء، لكنهم جاءوا عبر الانتخابات ليقودوا الشعب العظيم إلي الآخرة مباشرة! ولكن هل كان من حق السلفيين أن تكون لهم أحزاب؟ كان هذا هو أول الغش في الأساس الديمقراطي. وقد كتبت هنا وقت صدور ترخيصات هذه الأحزاب منبهًا إلي خطورة الملعوب؛ فكل لعبة لها قوانينها، ولا يمكن مثلا السماح للاعب بالنزول إلي ملعب الكرة برشاش لكي يرد برصاصة علي كل تصويبة للكرة باتجاه مرمي فريقه، بل لا يمكن للاعب الكرة أن يسدد بيده. كل نشاط إنساني له قواعده حتي لو كان هو الأسوأ. شواطئ العراة لا تسمح بدخول اللابسين، وإذا كانت الديمقراطية ناديا للعراة ارتضته الأغلبية فلا يجوز أن يدخله من يجرمون التعري!! والديمقراطية ليست هكذا. الديمقراطية هي التي تستر الأوطان وتحميها من السرقة باسم كتاب مقدس أو بقوة السلاح. وجميع الديمقراطيات لا تسمح بالقوي العنيفة التي تسعي لإلغاء الآخرين. وبهذا المعني فإن الترخيص للسلفيين في مصر لا ينفصل عن الإخلاص في تأمين الانتخابات التي تمنح مصر للسلفيين وكأن لسان مقاول البناء يقول: تريدون ديمقراطية؟! اشربوا أيها الشعب العظيم. وقد شربنا الانتخابات التي ستخرجنا من طوبة إلي دحديرة. وكل ما نرجوه أن يعلم من بيده زرار الأمن أننا شعب عظيم فعلاً، فلا يفلت الأمن مجددًا. وأن يعرف أننا شعب عظيم حقًا وندرك أن إطلاق لاعبين بالسلاح في ملعب الديمقراطية كان ملعوبًا يستهدف ضرب عظمة هذا الشعب. وإذا كان ملعوب تأسيس هذه الأحزاب قد مر علي الشعب العظيم فينبغي أن تكون هناك محاسبة علي أساس التصريحات والسلوك وأن يحذف الحزب الذي يضرب أساس المواطنة ويحرض علي بعض فئات المجتمع.