للآلام قدسيتها وللدموع حرمتها وللاكتئاب أسبابه الوجيهة..! هذا مافاضت به نفس ثوري حالم، في لحظة يأس عاتية، أمواجها متلاطمة، تصفعه حينا، تركله حينا، تقعده حينا، تجنه أحيانا، يجلس القرفصاء نادبا حظه، بين الغفو والصحو ينفث سيجارته، علي قلق كأن الريح تحته. الثوار ممن هم علي شاكلته حائرون، يفكرون، يتساءلون، يتهامسون، يتخيلون في جنون، اسماء واسماء، ويضيع كل هذاهباء. أنت لست بحاجة إلي أن تكون طبيبا نفسانيا لكي تفهم هذه المعادلة الإنسانية البحتة، الإحباط وضياع الأحلام وأن تصنع شيئا ربما تبذل فيه روحك ذاتها وتضحي فيه بحياتك دون مبالغة، ثم تجده فريسة سائغة لمن يستطيع القتال دونه والظفر به، يحصدون الثمرات، تتساقط الثمرات علي رءوسهم ، دون حتي تمنيات ولا رجوات ولا ضراعات ولا توسلات، فقط تسقط في حجرهم الثمرة التي هي بنت الثورة دونما جهد جهيد، بأقل جهد ، وإن تلكأوا في بذله، وتمنوا فشله، لاهم ثوار، ولا يحزنون ،كما قال كبيرهم الذي علمهم السحر. يقول الثائر الغاضب، ياصديقي ثمة ما يموت ولا يقام له عزاء، لا عزاء للحلم إذا مات، ولو مات حلم التحرير فإن العزاء لن يقام في " عمر مكرم" برغم أنه الرمز الديني للثورة التحريرية، الحلم الثوري في الضلوع، لا يزايلها .. العزاء في الداخل - رجال وسيدات بالملايين - لا أقول إن الثورة ماتت.. لكن ثمة حلما رقيقا شفافا كالبللور في صدور النخبة الشابة الأولي التي هبت في طليعة ثورة يناير خلال الثمانية عشر يوما التي أطاحت مبارك ونظامه.. هؤلاء الآن لديهم اكتئاب ثوري.. انه ليس استنتاجا.. هذه خلاصة نقاشاتي مع عدد من الأصدقاء من أخلص ثوار التحرير وأنقاهم ، ممن خرجوا في الرعيل الأول للثورة. هذه نخبة جديدة ينحصر عمرها بين الثلاثين والأربعين يضيع حلمها.. وقد كان حلمها - ولايزال - حلم كل المصريين من غير ذوي الهوي والغرض، الحرية.. والكرامة والعدالة الاجتماعية، مصر المدنية الحقيقية المتسامحة المتسعة للجميع، مصر المشاركة لا المغالبة، يقول بعض هؤلاء المكتئبين ثوريا : هل قمنا بالثورة وراح منا مايزيد علي ألف شهيد وآلاف الجرحي ومن فقدوا أطرافهم وأبصارهم لكي نسلم الحكم لقوي سياسية معظمها لم يشارك في الثورة واقلها شارك فيها لكي يمتطيها..؟؟ ان هذا التشخيص الذي أشهد أنني سمعته من كثير منهم يحتاج الي تفاعل حقيقي.. من أقام الفرح ومن جلس في النهاية علي الكوشة وأخذ العروس المحبوبة في حضنه؟ وهل اذا تعرض إنسان لهذا الموقف الذي يودي بالعقل ذاته ، ننتظر منه الهدوء.. الانسحاب.. التسليم؟ إنني هنا لا أحلل المنطق الثأري ولا أبيحه لأي طرف من الأطراف، لكنني أنقل نبضات وأنات عذبني مجرد سماعها، فما بالنا بمن يشعرون بها صباح مساء؟ هؤلاء المكتئبون يوغلون في الاكتئاب الآن.. انهم حتي لم يشاركوا في انتفاضة نوفمبر الراهنة بالتحرير.. يرون أن شيئا جديدا لم يعد ممكنا اضافته، والكل - نعم الكل- أسهم في هذه المأساة الثورية المقامة علي جثث 43 شهيدا في التحرير انضموا لألف من شهداء يناير سبقوهم الي الجنة.. بعض المكتئبين انكفأ علي ذاته، وآخرون ازدادوا حدة وكفرا بالمجتمع وآليات تداول السلطة ذاتها..! لدي هذا الرعيل من الثوار مواهب حقيقية، وثقافة، وخبرات، هذا جيل جديد يسقط في الفجوة القاتلة التي دمرت من قبل جيلي الستينيات والسبعينيات في عصري السادات ومبارك، ليمد السياسيون أيديهم إلي الثوار الأصلاء، الأصحاب الحقيقيين لثورة يناير، ليقيموا للثورة عرسا جديدا، ليضخوا في شرايين الوطن أفكارا ورؤي طازجة ومدهشة سمعتها من هؤلاء الموهوبين الأنقياء الوطنيين، لا يمتلك ناصيتها إسلامي أو علماني ممن يقتتلون علي كعكة البرلمان..! علاج سريع للاكتئاب الثوري مطلوب لبعض ثوار يناير ، وعلاج فوري آخر مطلوب للثوار الجدد في التحرير اليوم.. ليس معني نجاح الانتخابات التشريعية علي النحو المشرف الذي تم في الأيام الماضية ، ان نتناسي أن آلافا من الغاضبين الوطنيين الأنقياء يبيتون في التحرير منذ أسبوعين ، لا يفهمهم أحد ولا يحاول أحد أن يلبي مطالبهم أو أن يتفاوض معهم ، ان الشرعية تأتي من صندوق الاقتراع.. نعم ، لكن التحرير له قداسته ودوره ومنبره الذي كان بالأساس سببا في إيجاد تلك الكعكة التي عليها يتصارعون..! لا تتركوا شبابنا الثائر الوطني النقي فريسة لاكتئاب أكل أجيالا كاملة من قبلهم ، وأهلك أمما بأسرها.. سواء المكتئبون في بيوتهم أو المصبحون الممسون في الميدان.. نخبة من أفضل المصريين يجب أن نستمسك بما تملكه للوطن وننتفع به ، وما يملكونه لمصر كثير.. والله كثير!