فوجئت بحفيدتي الصغيرة ذات الاربعة أعوام تصر علي ان تشارك في الانتخابات مثلنا انا ووالدها ووالدتها.. ورغم ان الانتخابات بالنسبة لها في هذه السن الصغيرة كانت لا تتجاوز مجرد أن تغمس اصبعها في الحبر الفسفوري لتباهي به زميلاتها وزملاءها في مدرستها، إلا أنني استبشرت خيرا بهذه الرغبة وتوقعت اقبالا كبيرا من الناخبين علي صناديق الانتخابات، وهو ما حدث بالفعل منذ صباح يوم الاثنين الماضي، لدرجة انني احتجت لنحو الساعة ونصف الساعة انتظارا في الطابور قبل الادلاء بصوتي، رغم انني كنت اقف في طابور كبار السن، وقفت هذه الفترة حفيدتي الصغيرة معي دون تملل او ضجر! وهذا الاقبال الملحوظ من الناخبين الذي لم يسبق لنا ان شهدناه من قبل في أي انتخابات برلمانية أو غير برلمانية يثبت صحة الرهان علي اجراء هذه الانتخابات في موعدها وعدم تأجيلها، حسبما اراد البعض لفترة قصيرة وآرادها آخرون لفترة أطول.. فها هي الانتخابات تبدأ في ظل التضارب السياسي الذي نعاني منه، وفي ظل توجسات ومخاوف عديدة ومتنوعة من ان يصاحب هذه الانتخابات عنف مدبر وبلطجة ممنهجة. لقد خذل الناخبون الذين روجوا أن هؤلاء الناخبين سوف يخشون الخروج من منازلهم والذهاب إلي اللجان الانتخابية للادلاء بأصواتهم في أول انتخابات تجري بعد ثورة يناير لكن ذلك لم يحدث، بل حدث العكس تماما حينما أقبل الناخبون بأعداد كبيرة وهائلة بالقياس لما كنا نراه من قبل، علي اللجان الانتخابية.. والأغلب الأعم منهم ربما يذهب الي لجنة انتخابية للمرة الأولي في حياته كلها! ولعل هذا الاقبال الكبير الملحوظ من قبل الناخبين علي المشاركة في الانتخابات يقنع الجميع بمراجعة حساباتهم وتقديراتهم التي لا تمت للواقع بصلة والتي جعلتهم لا يحسنون قراءة الواقع ولا يسمعون كما ينبغي نبض الجماهير التي لم تخفها محاولات اثنائها عن المشاركة في الانتخابات ومطالبتها بمقاطعتها، كما لعل هذا الاقبال يقنع الجميع بأن الاحتكام لصناديق الانتخابات هو السبيل الوحيد أمامنا لاختصار المرحلة الانتقالية التي نعيشها وتشكيل مستقبلنا السياسي الذي نطمح فيه، خاصة بعد ان ثبت بالدليل ان القوي السياسية المتنافسة والمتصارعة الآن علي السلطة قد اتفقت علي ألا تتفق علي الحد الأدني الضروري لأسس بناء هذا المستقبل. أيضا.. لعل هذا الاقبال الكبير الملحوظ من قبل الناخبين علي المشاركة في الانتخابات يقنع ايضا الذين مازالوا يشكون في نوايا المجلس الأعلي للقوات المسلحة، كانوا يروجون ان المجلس يصر علي اجراء الانتخابات في هذا التوقيت، والأمن لم يسترد عافيته بعد لعلمه أن ذلك سوف يمنح الفرصة لحدوث عنف شديد، سوف يستثمره المجلس في تأجيل الانتخابات إلي أجل غير مسمي وفرض قبضته علي السلطة للابد، واجهاض حلم الدولة الديمقراطية العصرية التي ننشدها.. فقد جرت الانتخابات في ظل حرص من المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي توفير كل التأمين لها وللناخبين.. بل أن المجلس من أجل ضمان إقبال جماهيري أصدر قراره بمد فترة التصويت ليومين بدلا من يوم واحد لاتاحة الفرصة للناخبين من الادلاء بأصواتهم الذين كان يعوقهم قلة عدد اللجان الانتخابية الناجم عن قلة عدد القضاة المشرفين علي الانتخابات. المهم.. لقد كان لهذا الاقبال الكبير غير المسبوق للناخبين في أولي الجولات الانتخابية بمرحلتها الأولي آثار عديدة ومتنوعة.. فهو قد ساهم في تأمين هذه الانتخابات وحماها من العنف والبلطجة التي اقترنت دائما بكل انتخاباتنا البرلمانية.. حيث كان هذا العنف يحدث عادة في ظل غيبة الناخبين وعزوفهم عن المشاركة في الانتخابات. كما ساهم هذا الاقبال الكبير للناخبين في صياغة رسالة واضحة ومباشرة لكل النخب السياسية جميعها تدعوها لضرورة اعادة قراءة الشعب الذي تدعي كل منها أنها الأحق بتمثيله من غيرها.. ولذلك يفاجئها هذا الشعب دائما بعكس ما تفكر فيه هذه القوي او تروج له.. لذلك خرج هذا الشعب بنفسه ليقول ما يريده فعلا وليختار من يريدهم تمثيله في الفترة القادمة، حتي لا يحتكر أحد بدون وجه حق التحدث وحده باسم الشعب. لكن الأهم من ذلك كله أن هذا الاقبال الكبير غير المسبوق للناخبين، الذي نتمني ان يتكرر في بقية الجولات الانتخابية، سوف يؤثر بالقطع في نتائج هذه الانتخابات.. ففي ظل عزوف الناخبين وغيابهم الانتخابي دائما تتاح الفرصة إما لمن يريد تزييف آرائهم وتزوير الانتخابات، واما للقوي المنظمة والقادرة علي التحكم بالاوامر التنظيمية في اعضائها، حيث نستطيع حشدهم والزامهم بالمشاركة في الانتخابات، فتأتي عادة النتائج لمصلحتها، حتي وان كانت لا تمثل سوي نسبة محدودة من الشعب، هذا الاقبال الكبير للناخبين سيتيح الفرصة لنا لأن يكون أول برلمان لنا بعد ثورة 52 يناير أفضل في تمثيله للتيارات والقوي السياسية المختلفة وسيعطل او يحبط محاولات بعض القوي السياسية الأكثر خبرة بالانتخابات والاقوي تنظيميا للسيطرة علي هذا البرلمان، وبالتالي التحكم في صياغة دستورنا الجديد.. لانها تكسب أكثر في ظل غيبة جموع الناخبين. لذلك.. يظل من مصلحة الذين يخشون سيطرة قوة سياسية محددة حث الناخبين علي الاستمرار في هذا الاقبال علي الادلاء بأصواتهم في جولتي الانتخابات القادمتين.. لقد أدرك الناخبون، والذين كنا نتندر بسلبيتهم ان من مصلحتهم عدم تسليم أعناقهم لقوة سياسية واحدة، هي الأكثر تنظيما والأكثر خبرة بالانتخابات، وضرورة أن يكون البرلمان الجديد متوازنا وممثلا لكل الاتجاهات والرؤي السياسية المختلفة. وقد حان للنخب السياسية ان تسير وراء هذا الشعب وتستلهم من مواقفه العظيمة توافقا علي معالم مستقبلنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهذا المستقبل لا تقدر قوة واحدة علي رسم وتحديد معالمه حسب هواها ومآربها الخاصة.. إنما يتعين إذا كنا نبغي ديمقراطية حقيقية أن يشارك الجميع في صياغته وصنعه.. لقد انتهي زمن الاحتكار السياسي.. ولا يصح استبدال محتكر بآخر والا سلمنا بإجهاض ثورتنا.