يتندر العراقيون الكبار في السن كثيراً علي محكمة المهداوي الشهيرة في نظام رئيس الوزراء العراقي الراحل عبد الكريم قاسم الذي أُعدم في 8 فبراير عام 1963. ومن تلك النوادر ان صاحب المحكمة العقيد فاضل عباس المهداوي، الذي تم إعدامه ايضاً في نفس التاريخ، كان يسأل المتهمين، وغالبيتهم من القوي السياسية ذات الاتجاه القومي العروبي: إسمك؟ فيرد المتهم فلان الفلاني. ويسأله المهداوي: شغلك؟ ويرد المتهم كذا. ثم يسأله المهداوي: عنوانك؟ فيرد المتهم: الاعظمية. وقبل ان يكمل تفاصيل العنوان يفلت زمام المهداوي فيصرخ في المتهم: خلاص.. مادام سكنك في الاعظمية فأنت متآمر عفلقي (نسبة الي مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق). كان يكفي المواطن العراقي ان يكون من سكنة حي معروف باتجاهات الناس القومية والناصرية ورفضهم للشيوعية سواء في بغداد أو الموصل أو أي مدينة أخري حتي يتم اتهامه بانه من المتآمرين، ولا ضرورة للبحث عن أدلة وقرائن. يكفي انه من سكان الاعظمية.. أو الكرخ! وقد ورث رئيس الوزراء العراقي الحالي نوري المالكي هذه التركة من المهداوي فأصبح يعتقل الناس ويعذبهم ويصدر الاحكام عليهم لمجرد ان سكنهم في محافظات الانبار أو صلاح الدين أو نينوي أو ديالي أو في محلات الاعظمية والفضل وحيفا والغزالية والعامرية أو من مدن الفلوجة وسامراء والمحمودية والرمادي وبعقوبة. فما داموا من سكان هذه المحافظات والمحلات والمدن المعروفة بمواقفها الرافضة للاحتلال الامريكي والتسلل الايراني، فهم متآمرون يسعون لقلب نظام الحكم الذي جاءت به الدبابات الامريكية تحت ستار الانتخابات. وليس مهماً ان المتهم لا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد. فالمهم انه لا يحب المالكي. والذي لا يحب المالكي ليس عراقياً ولا وطنيا وعليه ان يهاجر الي الربع الخالي أو القطب الجنوبي فالعراق ملك المالكي وأسرته وحزبه، وكل العراقيين الآخرين أجانب ورعايا ومهاجرون وليسوا مواطنين. ولم يكتف رئيس الوزراء بتوجيه تهمة محاولة مزعومة لقلب نظام الحكم الي المعتقلين الابرياء، بل ان أحد مستشاريه تطوع للاعلان عن العثور علي البيان رقم واحد مع أحد المعتقلين والعثور علي أناشيد وطنية وقومية مع متهم آخر من بينها نشيد "الله أكبر" وهو أشهر الحان الفنان الراحل محمود الشريف. وتأتي هذه الاتهامات الملفقة جملة وتفصيلاً في أعقاب ما ذكره مسئول عراقي من ان المجلس الانتقالي الليبي قدم معلومات استخبارية ضد مواطنين عراقيين مدنيين وضباطاً سابقين إتهمهم فيها بالاعداد لانقلاب عسكري في العراق. ولو صحت هذه الرواية فهذه فضيحة لهذا المجلس الذي قاد ثورة شعبية أطاحت بالدكتاتور رغم انها قامت بدعم قتالي مباشر جوي وبحري من حلف الناتو بقيادة الولاياتالمتحدة. هل إنتهت مشاكل ليبيا التي لها أول وليس لها آخر ولم يعد لدي المجلس الانتقالي ما يشغل به وقت فراغه غير تلفيق التهم لمواطنين عراقيين؟ وما هي العلاقة الغريبة الشاذة التي ربطت بهذه السرعة بين المجلس الانتقالي الليبي والزمرة الحاكمة في بغداد؟.. نحن لا نريد ان نصدق تصريح المسئول العراقي حول النميمة الليبية الرخيصة، ولكننا يجب ان نقف أمام الزيارة المحيرة واللافتة للنظر التي قام بها المدعو محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي السابق للمجلس الانتقالي الليبي الي بغداد واجتماعه المشبوه المطول مع رئيس وزراء المنطقة الخضراء نوري المالكي في ذروة القتال داخل ليبيا، ثم التصريحات المضحكة المنسوبة الي المسئول الليبي عن الاستعانة بخبرات حكومة المالكي في إعادة إعمار ليبيا وهي لم تستطع خلال أكثر من خمس سنوات من الحكم ان تبني مدرسة واحدة في العراق. ان حملة الاعتقالات الواسعة التي شملت محافظات عراقية عديدة في ضوء الوشاية الليبية الرخيصة ستظل وصمة عار ليس في جبين حكومة المنطقة الخضراء وحدها ولكن في جبين المجلس الانتقالي الليبي، اذا صحت رواية المسئولين العراقيين. فإذا كانت بداية المجلس الانتقالي الليبي هي هذه الوشاية المخجلة ضد العراقيين الوطنيين، فإنه أسوأ خلف لاسوأ سلف.. ولا أعرف علي وجه الدقة مدي صدق تصريحات محمود جبريل لإحدي القنوات الفضائية التي نفي فيها الوشاية المذكورة.