التسوُّلُ هو مدُ اليدِ استجداءً. أبدعَ نجيب محفوظ في رائعتِه زقاقِ المدق في تصوير اللهفةِ علي التسوُّلِ ولو بفقدانِ البصرِ. تطورَ التسوُّلُ وتحولَ من استجداءٍ سلبي بمدِ اليدِ إلي تناحةِ وغتاتةِ وقلةِ أخلاقِ. اتسعَ نطاقُ التسوُّلِ ليشملَ كلَ يومٍ، وكلَ أرضٍ فيها بشرٌ، وكلَ وسيلةِ مواصلاتٍ جماعيةٍ. ترام الإسكندرية بعد أن كان وسيلةَ مواصلاتٍ جميلةٍ أصبحَ وسيلةً للنكدِ بسبب المتسولين المشهورين المتباكين بكل الوسائلِ المبتذلةِ لاستدرارِ الشفقةِ، انتهاكٌ لخصوصيةِ الركابِ بأصواتٍ منفرةٍ وبمناديلٍ وأوراقٍ تُلقي في حجورِهم بدون استئذانٍ. في السكةِ الحديد، يركبُ مشاهيرُ المتسولين من القاهرةِ حتي طنطا أو الإسكندرية، والعكس، لا فرقَ بين قطارٍ فاخرٍ وقطارٍ عادي، القطاراتُ المباشرةُ هي الوحيدةُ التي ينجو ركابُها من هذا التعدي. كانَ للتسوُّلِ أيامٌ، مثلَ أيامِ الجمعةِ حول المساجدِ، توسعَ فأصبحَ في كلِ أوقاتِ الصلواتِ في كل الأيامِ. كان للتسوُّلِ ميادينٌ، فشملَ كلَ شارعٍ. كان المُتسوِّلُ فردًا، فأصبح أسَرًا بأكملِها. شارعُ الطاقة بجوارِ النادي الأهلي بالحي الثامن من مدينة نصر مسرحٌ لكلِ أنواع التسوُّلِ، أُسَرٌ تحتلُ جزُرَ الطريقِ وتقيمُ خيامًا تبيتُ بها طوال شهر رمضان والأعيادِ، عمالُ قمامةٍ ومتنكرون في زيِّهم يدورون بالمكانسِ، باعةُ جرجير وبقدونس وليمون يمِدون ما بأيديهِم داخل نوافذِ السياراتِ. خناقاتُ المُتسولين لا تنتهي علي مناطقِ النفوذِ. تغلغلَ التسوُّلُ وما عادَ مقتصرًا علي الشوارعِ لكنه امتدَ للمؤسساتِ المختلفةِ، عاملون بها يمِدون أيديهم صراحةً أو بحجةِ التشهيلِ. لا أنسي متسوِّلًا قالَ لي إن امرأتَه أوصَته علي كيلو لحمة، وأخري مزنوقة في مصاريف المدرسةِ. المتسوِّلُ طماعٌ شأنه شأن منادي السيارات، يحددُ لنفسِه مكانًا ومبلغًا ماليًا، وإلا... هذا عن المتسوِّلِ الفردِ، لكن ماذا عن التسوُّلِ المؤسسي في التليفزيون والإذاعةِ، إعلاناتٌ علي ألسنةِ مرضي، فيها كلُ صورِ استغلالِ الآلامِ. شفي اللهُ كلَ مريضٍ لكن أيكونُ توفيرُ الرعايةِ الصحيةِ بتكريسِ ثقافةِ الاستجداءِ؟ هل تتسولُ المدارسُ والجامعاتُ لتوفيرِ الميزانياتِ؟ هل تتسولُ أيةُ مؤسسةٍ وتستجدي مع كل زنقةٍ؟ هناك من يتباكون علي وجودِ الكلابِ والقططِ في الشوارعِ، وماذا عن المتسولين؟ اللهم اللهم لوجهِك نكتبُ. أستاذ هندسة الحاسبات بجامعة عين شمس