كثيرا ما تبدو الدولة المصرية كما جسد بلا رأس، وكمن فقد الوعي تأتي تصرفاتها وخياراتها خبط عشواء، وبدلا من إنتاج وإدارة المعرفة كما تفعل دول العالم المتقدم فإننا نجتهد في إنتاج وإدارة التخلف. ربما هو ميراث قديم لنظام سقطت رموزه بينما لايزال مماليكه وأذنابه يتصدرون المشهد العام في معظم مؤسساتنا وهيئاتنا الكبري، يحاولون إعادة إنتاج النظام ويعيدون التأسيس للعشوائية والارتجال ومخاصمة منهج العلم ومنطق العقل، يستمرون في محاربة الكفاءات وضرب النجاحات وتشويه القامات والتمكين لكل أصحاب العاهات محدودي القدرات "المديوكر" والعاطلين عن كل موهبة بالاستوزار والاستوظاف وكأننا أهدرنا ثورة عظيمة لتكريس "دولة الحد الأدني" التي أسس لها مبارك ومكن مفاهيمها ومعطياتها من رقاب الدولة عبر ثلاثة عقود أو يكاد، فبدت تحت حكمه ولاتزال منزوعة العقل والوعي والكيان مع استثناءات قليلة هنا أو هناك. وإذا كنا تعايشنا ولو علي مضض مع دولة الحد الأدني لسنوات طويلة فلم يكن من المعقول ولا المقبول أن نستسلم لإجراءاتها ونواتجها بعد الثورة التي قامت للخروج من عباءة الأدني والأضيق والأسوأ للدخول إلي رحابة الأعلي والأوسع والأفضل. لقد كانت حكوماتنا ووزرائنا ومؤسساتنا وجامعاتنا وقياداتنا ومبادراتنا جميعها في حدها الأدني فتفاقمت أزماتنا وتشعبت مشكلاتنا وتعقدت أحوالنا وضعف الناتج القومي العام وتآكل رصيد الدولة المصرية في محيطها العربي والأفريقي وفقدت تأثيرها محليا وإقليميا وضعف دورها عالميا بفضل سياسات وشخوص وكيانات الحد الأدني. فهل يليق أن تظل الدولة المصرية بعد الثورة نهبا للإرتجال والعشوائية وسياسات " القطاعي" وكل "يوم بيومه" المعمول بها حالياً؟ هل يمكننا الرهان علي المستقبل أو محاولة الدخول إليه بينما الدولة غائبة مغيبة ودونما نظرية سياسية حاكمة أو نظام سياسي يحدده دستور لدولة عصرية مدنية ديمقراطية حديثة؟ مالكم كيف تحكمون؟ ياسادة إن معظم مؤسساتنا وهيئاتنا حتي تنظيماتنا وأحزابنا السياسية لاتزال حتي اليوم تعمل بقوي القصور الذاتي، بأدني حد من الطاقات والقدرات وبرد الفعل لا من خلال تخطيط وإعداد وبرامج وقيادات مؤهلة وكفاءات، وإرادة واعية للتقدم والنهضة وبناء دولة عصرية وطموحات. ماذا يفعل الدكتور شرف ووزراءه المغيبين العاجزين؟ وماذا يفعل المجلس العسكري وجنرالاته الحائرين، وماذا يفعل الاعلام الرسمي والخاص الذي انحصرت مهمته في تشويه وعي الناس بالإيهام والمزايدة وسهرات معارك الفضائيات الخاوية وبطولات الوهم كما في حرب "البسوس" و"داحس والغبراء" وخصخصة الثورة لصالح جماعات وتنظيمات وإعلانات وكفلاء لهم أصابع إقليمية ودولية تكرس لإعادة إنتاج التخلف واستحضار نماذج تورا بورا وطلبان وقندهار، وكأننا في بث تجريبي لدولة الخلافة عند معاوية وبنوه، أو ملوك الطوائف ومشاهد سقوط الأندلس. ناهيك عن النفخ في النار المشتعلة بين المحامين والقضاة وبين الأحزاب والائتلافات والتكتلات وقوائم الانتخابات وتيارات الإسلام السياسي وبعضها وغيرها ممن كفروهم من العلمانيين والليبراليين واليساريين. ما كل هذا الغثاء؟ أهكذا تبني الدول وتؤسس طموحات التقدم والنهضة لثورة عظيمة أبهرت العالم وعملت النخبة سواء بغباء أو انتهاز أو تآمر علي اختطافها واجهاضها والتيه بها في غياهب التشرزم والتخلف والفوضي. لقد كتبنا وكتب غيرنا عشرات المقالات وقدمنا رؤي وحلولاً ومقترحات وحذرنا تحديداً مما يحدث الآن ونعايشه في ذهول من قدرة الدولة ومؤسساتها علي التعامي عن الحقائق والضرورات ونبهنا لسيناريوهات الفوضي واستحقاقات المستقبل وضمانات العدالة الاجتماعية والحياة الحرة الكريمة لكل الناس والتأسيس للتحرك من الثورة إلي النهضة، ولكن لا حياة لمن تنادي وكأن الجميع يتواطئون لا علي الثورة وحدها وإنما علي الدولة كلها ويؤسسون للفوضي والفتنة ليحققوا أطماع المترصدين لمصر دوليا وإقليميا وحتي عربياً، بتحويل معارك الفضائيات إلي حرب أهلية علي الأرض. وأقرأوا معي ماكتبه هشام علام في "المصري اليوم" 24 أكتوبر تحت عنوان: "التجربة التشيكية تحذر مصر" حيث صرح الوزير السابق والسياسي التشيكي "مارتن بورسيك" في زيارته للقاهرة: "إن الأوضاع السياسية في مصر بعد الثورة تشبه ما حدث في بلاده منذ 22 عاما، فحالة التخبط وانعدام الرؤية لاتزال مهيمنة رغم تحقيق بلاده إنجازا بانضمامها للاتحاد الأوروبي، مؤكدا أن الوضع في بلاده يعكس حالة من التعارك السياسي بين قوي وأحزاب لا تتحاور معا، وتريد فقط أن تلقي بالاتهامات علي الآخرين، وتبحث عن السيئ في الآخر وتخونه، جاعلة من المصلحة العامة للبلاد أمراً خارج أجندتها السياسية. وتابع "بورسيك": اليس أمامكم الآن سوي الجلوس علي منضدة واحدة، وإذا لم تحددوا هدفاً واضحاً للثورة فليس أمامكم سوي الحرب، وأقصد الكلمة بكل معانيها، وعلي الجبهات الداخلية والخارجية، فهل نظرتم إلي وضعكم الاقتصادي، وحجم استعدادكم لخوض مثل هذه المعارك، هذان هما الخياران، وعليكم أن تجتمعوا لتحددوا هدفاً تنجزونه حتي تشعروا بثمار الثورة. وفي نفس السياق يقول "جان أوربان" أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك ببراغ: "إن المصريين يرتكبون أخطاء ستظل معهم إلي الأبد، فالأخطاء التي ترتكب في بداية الثورات لا تموت أبدا". إذن كفاكم ما ارتكبتموه من أخطاء العمد وخطايا الغفلة، فتوقفوا عن هواية مخاصمة العلم والعقل ولا تذهبوا بالوطن بعيداً جراء مشروعكم الخائب في إنتاج وإدارة التخلف.