هل مرّ زمن طويل منذ وفاة العندليب عبد الحليم حافظ. لا. لقد فارق دنيانا في 30 مارس عام 1977. أي لم يمر علي وفاته نصف قرن في عصر الإذاعة والتليفزيون وهو ما لا يساوي عشر سنوات. أما الآن في عصر الميديا فهذا لا يساوي إلا دقيقة تقوم فيها بعمل » كليك » علي اليوتيوب لتري أمامك ما تشاء من أغاني عبد الحيلم أو غيره من مطربي وفناني القرن العشرين. عبد الحليم لم يكن مجرد مطرب ذي صوت جميل دافئ حانٍ. لكنه كان علامة علي عصره. لا أتحدث عن السياسة وأغانيه الوطنية التي كانت من أروع الأغاني التي تمنح الأمل والتي يري البعض فيها الآن أنها كانت ترويجا لنظام ديكتاتوري وإن كنت لا أري ذلك فلقد كانت هناك حالة فرح حقيقية بالمشروعات الكبيرة التي كان أحدها سببا في معارك سياسية مع الغرب مثل السد العالي. وكانت هناك مدارس ومصانع تُبني.. تعنيني أغانيه العاطفية التي كانت زادا لكل الأحباء سواء كان الحب مكللا بالنجاح أو بالإخفاق. ليس من السهل أن تعرف كم سهروا مع أغاني عبد الحليم ينتظرون خطابا لم يأتِ من حبيبة أو حبيب. أو كم هرولوا إلي موعد جميل وأغاني عبد الحليم تتردد في أرواحهم. لقد خلقت هذه الأغاني في الروح حالة من الرومانسية جعلت كثيرًا من الأحباء مرتبكين يرضون بكلمة أو نظرة أو وقفة علي الشاطئ. جعلت الحبيب والحب شيئًا موضع التقدير الروحي قبل التقدير الجسدي. جعلت في روح الشباب من الرجال نوعًا من الخجل. كانت هذه سمة الأغاني كلها تقريبًا مفرحة أم مؤلمة. عشنا نسمع عن صراع بينه وبين فريد الأطرش لكن فريد الأطرش لم يكن له في القلوب كما لعبد الحيلم إلا في السينما. أفلام فريد الأطرش الاستعراضية بالذات كانت حافلة بالأغاني الجميلة وطبعا معه راقصة مثل سامية جمال فهذا يكفي للشعور بالروعة. أفلام حليم كانت ترفع من قيمتها الأغاني لا الموضوع ولا التمثيل لأن موضوعاتها متشابهة تقريبًا. المغني الذي يبحث عن فرصة في الكثير منها. الأغاني كانت هي عامل الجذب الأكبر. حتي قبل أن يتقدم في الأداء التمثيلي في أفلامه الأخيرة كان الغناء هو محفل العاشقين له وللسينما. سمعنا كثيرًا أنه لقربه من السلطة عطل أصواتًا رائعة مثل محمد قنديل وكارم محمود وغيرهما وأنه كان يغير من محرم فؤاد حين ظهر. حتي هاني شاكر حين بدأ سمعنا هذا الكلام عنه لكن هل كانت السلطة وراء انتشار عبد الحليم؟ لقد واجه في بداية حياته جمهورًا بالُسكندرية قذفه بالطوب حين غني أمامهم صافيني مرة أو علي قد الشوق، أنا لا أذكر بالضبط. لكنه بعد ذلك كان محل حفاوة الجمهور فهل صدرت الأوامر للجمهور أن يحبه؟ طبعا لا. كان غناؤه شاملًا، كلمات جديدة لكتاب مثل سمير محجوب ومحمد علي أحمد وإسماعيل الحبروك ومأمون الشناوي وصلاح جاهين وغيرهم والألحان لموسيقيين جدد مثل محمد الموجي أو كمال الطويل أو منير مراد أو بليغ حمدي قدموا جملًا فنية وموسيقية جديدة سريعة الإيقاع، كان من الصعب في البداية أن يتقبلها أصحاب السلطنة. حتي عبد الوهاب حين لحن له اختلف عما قبله. أين ذهب عبد الحليم بعد ذلك؟ حتي في أغانيه الطويلة مع الشاعر محمد حمزة لم يعد للسلطنة ولم يشعر أحد فيها بالملل. كان حسه الفني يسبق غيره فيذهب إلي أجيال جديدة من الشعراء مثل الأبنودي وعبد الرحيم منصور ومجدي نجيب. وهكذا كان يعرف ما يحدث حوله وفي كل المراحل كانت أغانيه كتابة وموسيقي وصوتا تعلي من شأن الروح وتصنع من صانعها إنسانًا لا يعرف العدوانية في الحب ولا يري المرأة أو الفتاة هدفًا سهلًا بل هي محاطة بالرقة التي صنعتها الأغاني في روحه هو! لكل منا ذكريات مع أغانيه شخصية وعامة فكم تجمعنا مساء شم النسيم لنسمعه خاصة بعد أن ابتعد فريد الأطرش عن هذه الليلة. كانت مثل ليالي حفلات أم كلثوم تخلو فيها الشوارع من الناس وفي حفلته الأخيرة غني قارئة الفنجان التي ملأت الفضاء ومازالت ومات بعدها ويوم جنازته مشيت مع من مشوا قليلًا في ميدان التحرير وبعدها ذهبت إلي الإذاعة لتسجيل قصة في البرنامج الثاني - الثقافي الآن - ومن النافذة شهدت مظاهرة من الصبية يهتفون »عبد الحليم لسه ماماتش» كان أكثرهم لا يتجاوزون الخامسة عشرة من العمر. وذهبت إلي عملي في اليوم الثاني فوجدت كل الزميلات تقريبًا ترتدين السواد مثل معظم النساء ذلك اليوم. لقد بعد الزمن حتي صارت الأغاني الجميلة قديمة وجديدة ضائعة بين الأغاني الهابطة التي تجعل من المحب متحرشًا.