رغم الثورة وسقوط مئات الجرحي والشهداء من أجل حياة جديدة تغير وجه مصر الذي ارتسمت عليه علامات القبح طوال 30 عاما هي عمر نظام أفسد علي المصريين حياتهم، لا يزال هناك في مصر من علي إستعداد لبيع صوته من أجل حفنة من الجنيهات.أرجوك قبل أن تصب لعناتك علي هؤلاء، وتصفهم بأبشع الألفاظ، تريث قليلا، فالإمام علي بن أبي طالب أنصفهم من قبل، عندما لعن الفقر والجوع لما يحدثانه من تغييب للعقول، فقال: " لو كان الفقر رجلا لقتلته".فهل نحن قتلنا فقرهم وجوعهم، حتي نطالبهم بعقول يقظة تقف أمام محاولات فلول الحزب الوطني المنحل للتسلل إلي مقاعد البرلمان مرة أخري. وجدي يرفع قيمة صوته إلي 100 جنيه.. ومحمد لن يعطيه إلا بوحدة سكنية سامية تبيع صوتها باثنين گيلو لحمة.. وهشام يقرر: أقبض أولا ثم أبيع الإجابة التي كشفت عنها جولة " الأخبار " بين سكان المقابر والعشوائيات بمنطقة الإمام الشافعي، هي:" لا "، فهؤلاء لم يجنوا ثمار الثورة بعد، بل أن أعمالهم تأثرت منذ قيامها بسبب الركود الذي أصاب سوق العقارات ، حيث يعمل معظمهم في أعمال البناء. وجدي طلعت هو أحد هؤلاء، حيث يعمل في أعمال الدهانات، ويعاني كثيرا من الأمراض. . عندما زارته " الأخبار " كان يتناول طعام الغداء، الذي لم يزد عن طبق به قرصين من الطعمية و طبق آخر به شرائح من الطماطم، ومعهما رغيف من الخبز. ورغم فقره الذي تكشف عنه وجبة غدائه قبل المكان الذي يعيش فيه، إلا أنه حاول في البداية أن يخدعنا عندما سألته: " هل ستبيع صوتك في الإنتخابات البرلمانية المقبلة ؟ "، حيث قال: " بعد الثورة.. لا طبعا ". وجدي كان يعني ب " لا " تلك المبالغ الهزيلة التي لا تزيد علي 20 جنيها للصوت في أحسن الأحوال، ولكن عندما سألته: وماذا لو أصبح المبلغ مائة جنيه؟ ابتسم ابتسامه يكسوها الخجل وقال: " وقتها يمكن أفكر". واستطرد بعد أن استبدل الإبتسامة بملامح يكسوها الحزن: " نعمل إيه يا بيه، الحياة صعبة، وأنا بدون عمل من شهر فبراير الماضي، عايزني أقولك ساعتها ان لو حد قالي خد 100 جنيه واديني صوتك مش هديله، دا أنا ساعتها أبقي راجل أهبل " . ولم يختلف قرار هشام عاطف كثيرا عن ما ذهب إليه وجدي، ولكن هشام الذي إلتقيناه بينما كان يجاهد في أحد أفران الخبز المدعم للحصول علي رغيف الخبز، قال: " أقبض أولا، ثم أبيع ". فلا يزال هشام متألما مما حدث له في الإنتخابات البرلمانية الماضية عام 2010 عندما وعده أنصار أحد المرشحين بمبلغ 20 جنيها، ولم يحصل عليها بعد إدلائه بصوته. ويقول هشام: " نفسي أشوف المرشح ده أو حتي أنصاره اللي ضحكوا عليا .. أكيد مش هيحصلهم طيب " . أبيع بوحدة سكنية علي عكس هشام يحمل محمد عبد العاطي عمران ذكري طيبة لمرشح من الحزب الوطني، لمجرد أنه منحه توصيه لمحافظ القاهرة للحصول علي وحدة سكنية، لم يتحصل عليها حتي الآن . ورغم أن هذا المرشح، وهو حسن التونسي، أحد المتهمين بموقعة الجمل، إلا أن عمران ليس لديه مانع أن يعطيه صوته مره أخري، لو ترشح للإنتخابات مره أخري، وقال: " الوحدة السكنية حلم حياتي، وصوتي لمن يساعدني علي تحقيق لي هذا الحلم ". هذا الطموح العالي الذي عبر عنه عمران، هو في الحقيقة يوجد لدي كل سكان المقابر، فمن منهم لا يريد أن يترك جوار الموتي، لينتقل إلي العيش مع الأحياء، لكن سامية محمد حسن كانت أحلامها أكثر واقعية ، وقالت: " نفسي طبق اللحمة يزور طبلية طعامنا ". ومن هذا المنطلق لا تجد سامية حرجا في منح صوتها لمن يعطيها " 2 كيلو من اللحم"، وأضافت: " تعرف الأتنين كيلو دول، ممكن نعيش عليهم علي الأقل أسبوع ". سارقو أحلام البشر حالات وجدي وسامية وهشام ومحمد، تشكل آراء الغالبية العظمي من سكان المقابر والعشوائيات بمنطقة الإمام الشافعي، غير أن هناك حالات أخري، تبدو كنغمة تفاؤل وسط لحن حزين يعزفه فقر هؤلاء السكان. يقود أوركسترا عزف هذه النغمة المتفائلة، مدحت حامد، الذي نجح من خلال رئاسته لجمعية " العالم بيتي " إلي إحداث تغيير في المنطقة، عبر حملة " لا تبيع صوتك " . ما أحدثه مدحت من تغيير في إتجاهات المتعاملين مع جمعيته ليس إختراعا، كما يعترف هو نفسه، بل أنه ينطلق - كما يقول - من قاعدة نعرفها جميعا، لكننا نتجاهلها عن قصد أو بدون قصد. هذه القاعدة التي يقصدها هي، إملأ البطون .. تعمل العقول " ، ويقول: " لم أكن أستطيع أن أحدث تغييرا، لولا أني عملت علي سد رمق هؤلاء الفقراء " . ولا يتجاوز المتعاملين مع الجمعية التي يرأسها مدحت حامد ال 250 أسرة، ويجذم أنه نجح في تغيير إتجاهاتهم الذهنية عبر ندوات توعيه، بعد ان سار علي قاعدة " إملأ البطون .. تعمل العقول ". ودعت الندوات التي نفذتها الجمعية الأسر المتعاملة معها إلي عدم التضحية بشهداء ثورة 25 يناير ،وإعطاء أصواتهم لمن يدفع أكثر، وأعتبرت هذه الندوات أن مقاومة الرغبة في بيع الصوت رغم الظروف الصعبة يمثل شكلا من أشكال " جهاد النفس " . ووصفت هذه الندوات مشتروا الأصوات ب " سارقي الأحلام "، ووجهت نداء لهذه الأسر: " جاهدوا أنفسكم واشتروا مستقبل أولادكم ولا تمنحوه لهم ". ورغم ما يشعر به مدحت من سعادة بسبب نجاحه في التأثير علي 200 أسرة، إلا انه يعترف: " لا زال أمامنا الكثير.. فهؤلاء نقطة في بحر البشر". وحتي يستطيع مدحت التأثير في هذا البحر يحتاج لإمكانيات مادية لا يقدر عليها، ويقول:"نحتاج لتضافر جهود كل الجمعيات وأهل الخير لتعمل في فترة الإنتخابات، ليس فقط في منطقة الإمام الشافعي، ولكن في كل المناطق الفقيرة، حتي نغنيهم عن أموال سارقي أحلام البشر". أصواتنا مش للبيع ما قاله رئيس جمعية " العالم بيتي " كان تقييمي له في البداية علي أنه لا يخلو من مبالغات، غير أن هذا الكلام أكدته حالات من المتعاملين مع الجمعية إلتقتها " الأخبار " . سميرة عبد الخالق، واحدة من هؤلاء، تقطن هي وأسرتها في غرفة واحدة فقط، غير أنها " لن تبيع صوتها ولو بألف جنيه " . سميرة بذكاء المرأة المصرية الفطري لمحت إندهاشي من إصرارها علي عدم بيع صوتها، رغم حالتها المعيشية الصعبة، وقالت: " مش أنا نفسي الوضع ده يتغير واسكن في بيت آدمي، طب ما هو ده مش هيتغير لو إدينا صوتنا للناس اللي كانت بتخدعنا " . وأكدت علي هذا المعني رتيبة عبد الراضي، التي قالت: " يعني ناخد 100 جنيه ينصرفوا في يومين تلاته، ونخلينا في الهم علي طول، قلتهم أحسن". وتحمل مني إبراهيم ذكري سيئة للخدمات العلاجية في ظل النظام السابق، والذي أدي تدهورها إلي وفاة زوجها أثناء علاجه بالقصر العيني، وتقول: " كان عملولي إيه مرشحي الحزب الوطني أثناء علاج زوجي، ولا حد منهم عبرني، ده إحنا لو جبناهم تاني نبقي ناس هبل ". ولا تحمل شقيقتها رضا إبراهيم ذكري سيئة مع مرشحي الوطني، لكنها قالت رغم تعليمها البسيط بأسلوب فلسفي قد لا يخرج من الحاصلين علي مؤهلات عليا: " نفسنا نشوف الإبتسامة علي وجه الأطفال " . زجاجة الزيت أهم ما تمنته " رضا " لن يتحقق في القريب العاجل، بل أننا نحتاج إلي وقت طويل، كما يؤكد د.أحمد عبد الله استشاري الطب النفسي.فوفقا لما ذهب إليه د.عبد الله، فإن الوظائف العليا للمخ ، ومنها التفكير الذي يجعلني أقرر أن أمنح صوتي لصاحب البرنامج الأفضل، لن يعمل بشكل لائق، طالما غابت الإحتياجات الرئيسية للإنسان. والإحتياجات الرئيسية، ليست هي فقط الطعام والشراب والمسكن، كما ذهب عالم النفس " ماسلو " في هرم الإحتياجات البشرية، لكن يدخل في إطارها - أيضا - ضمن النظريات الجديدة الحاجة إلي الكرامة. ويقول د.عبد الله: " في ظل غياب هذه الإحتياجات، ستكون ( زجاجة الزيت ) التي يقدمها أحد المرشحين له، أهم عنده من أن تحدثه عن مواصفات النائب الذي يختاره " .ويتوقع د.عبد الله في ظل غياب هذه الإحتياجات ألا يحدث التغيير المأمول الذي ننشده، وهو ما يقوده إلي أن ينصح المتفائلين بقوله: " استعدوا من الآن للإحباط الكبير " . وحتي يتحول هذا الإحباط الذي يتوقعه د.عبد الله إلي أمل كبير في المرات المقبلة، يدعو إلي مشروعات تنموية بهذه المناطق الشعبية، ويقول: " لا توعية بدون تنمية ". ويطالب استشاري الطب النفسي الجمعيات الأخري في الوقت ذاته، بأن تحذو حذو جمعية "العالم بيتي"، مشيرا إلي أن ما تفعله هذه الجمعية هو " مسكنات " للخروج بأقل الخسائر في الإنتخابات المقبلة، لكن " التنمية " في رأيه هي العلاج الذي يستأصل الداء.