هناك سؤال في غاية الأهمية يطرح نفسه علي الساحة المصرية في وقتنا الحالي والذي من المفروض أنه وليد ثورة 52 يناير التي حظيت أهدافها منذ اللحظة الأولي بالدعم والتأييد من جانب الشعب ولاقت الحماية من قواته المسلحة. السؤال يدور عما إذا كنا نريد حقا دولة قانون يكون للقضاء العادل المنزه فيها الكلمة العليا أم أننا نريد دولة فوضي لا تلتزم بالقوانين. بلاشك فإن الغالبية الكاسحة من أبناء هذا الشعب التي أصبحت تعاني الأمرين من حالة التسيب.. تريدها دولة قانون وعدالة.. لا مكان فيها للفوضي وكل أنواع الانفلات الأخلاقي والسلوكي.. تريدها دولة تموج بالحياة الآمنة المستقرة ينتعش اقتصادها وتتصاعد مواردها بما يمكنها أن تستجيب لكل الاحتياجات العادلة لقيام حياة حرة كريمة. إن هذا السؤال سوف يقودنا إلي سؤال آخر ليس أقل أهمية وهو كيف يمكن تقدير معايير حرية التعبير باعتبارها ترمومتر الحريات العامة؟ بالطبع فإن الإجابة وانطلاقا من الإيمان بدولة القانون والعدالة فإنه لابد أن تكون لهذه الحرية ضوابطها المرتبطة بحرية الغير وحقوقه واحترام كلمة القضاء الذي يعد ضمانة الحرية لكل فرد في المجتمع. إن مخالفة هذه المبادئ أو التحايل عليها بأي صورة من الصور إنما يعني الفوضي وتحول الدولة إلي غابة لا ضابط فيها ولا رابط وهو ما يمكن أن يسمح لأن يكون الحكم فيها لهوجائية اغتيال كل الحقوق. لا أحد يرضي أو يمكن أن يوافق علي أن تكون هناك قيود علي الحرية التي تحقق الصالح العام الذي هو في النهاية صالح كل مواطن. ولكن لابد أن نقر ونعترف بأن لهذه الحرية حدوداً تنتهي عندما تمس حرية المجتمع وبالتالي حرية أعضاء آخرين فيه. وليس خافيا أننا كصحفيين وإعلاميين وكتاب قد مررنا بأوقات صعبة علي مدي عقود طويلة. لا أحد يمكن ان ينسي خاصة الذين مارسوا هذه المهنة لسنوات طويلة كيف أن البعض كان يحاسب ويعاقب ليس علي ما قد يكتبه وإنما كانت تتم المحاسبة علي مجرد التفكير فيما سوف يكتب. لا أقول جديدا إن بعض الزملاء من شباب هذه المهنة ربما لا توجد لديهم المعلومات الكافية عن هذه المعاناة وما تعرض له قدامي زملائهم من الشيوخ الذين مارسوها. وبعيدا عما كان سائدا من انتهاكات سافرة لحرية التعبير فإن الجميع كانوا يلتزمون بالقرارات القضائية الصادرة بحظر النشر في أي قضايا أو موضوعات احتراما لمواثيق العمل الصحفي التي كانت تقضي بهذا الاحترام وتدعو إلي مناهضة الفوضي. وفي هذا الزمن الذي يعود بنا إلي سنوات مضت فإن كثيرا منا يتذكر الدور الذي كان يقوم به الرقيب المعين في كل صحيفة لقراءة كل كلمة قبل نشرها حيث كان له الحق في منعها أو إجازتها. إن أي مخالفة كانت تعني المصادرة وتحويل المسئول إلي التحقيق والمحاكمة. وأذكر بهذه المناسبة أنه ومن فرط ضيقنا وغيظنا من وجود هذا الرقيب فإننا كنا نجمع له عشرات الأخبار »الدشت« أي غير الصالحة للنشر ونقدمها له لشغله في قراءتها وإجباره في البقاء بالجريدة حتي الصباح رغم انتهاء إعداد كل الطبعات ودوران المطبعة!! وقد حدث عندما كنت رئيسا لتحرير »الأخبار« أن صدر قرار للنائب العام بحظر النشر حول إحدي قضايا التهريب.. وعندما ظهرت »الأخبار« في اليوم التالي وبها بعض تفاصيل الحادث تم تحويلي إلي نيابة أمن الدولة للتحقيق بتهمة مخالفة قرار النائب العام ، لم ينقذني من المحاسبة سوي قيامي باثبات انني ابلغت بقرار الحظر من مكتب الصحافة المتولي متابعة هذه المسائل في ذلك الوقت بعد بدء طبع الجريدة. هذه الذكريات تتابعت أمامي وأنا أتابع مواقف بعض الزملاء الأجلاء الذين أبدوا الاحتجاج علي بعض الإجراءات التي تم اتخاذها ضد عدم الالتزام بقرارات قضائية بحظر النشر في إحدي القضايا. وعندما سئلت في إحدي القنوات الفضائية عن وجهة نظري فيما حدث.. قلت إنه يجب توجيه هذا السؤال لهؤلاء الزملاء ليقولوا لنا عما إذا كانت حريتهم في الكتابة أو النشر قد تعرضت لأي قيود دون قرار قضائي من محكمة أو هيئة قضائية. لا جدال إن إجابتهم عن هذا السؤال سوف تعكس إجابتي الصحيحة عن نفس السؤال. جلال دويدار [email protected]