أصوات »الزن« والنواح والعويل والتهديد بمزيد من النواح.. التي نسمعها هذه الأيام.. لا تعبر عن مطالب فئوية.. ولا وقفات احتجاجية.. وإنما هي »مناحات« عامة.. قال عنها موسيقار الأجيال عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة : بحب نوحي.. اكمن نوحي بيحنن قلبك! ومفهوم طبعا ان عبدالوهاب كان يحب (نوحه) لأن هذا النواح.. هو الذي يحنن قلب الحبيب الذي يكفله.. ويجعله مرنا من فرط التأثر بصوت النواح.. وليس اقتناعا بالشخص النَّواح.. أو بالحب الحقيقي.. وهو كلام عجيب فعلا.. نسمعه ونطرب له.. ونصدقه إلي أن تحول (النواح) إلي ثقافة.. وكل مواطن يحب نوحه.. لأن نوحه يحقق له عطف جهة العمل.. أو رئيسه المباشر.. أو الوزارة أو حكومة الدكتور عصام شرف.. أو المجلس الأعلي للقوات المسلحة. الاسم.. لا يهم.. المهم أن تصل إلي الهدف بالنواح.. وقيل في (مختار الصحاح) انه (التناوح).. و(ناحت المرأة نياحا) والاسم هو (النياحة) و(نوائح).. و(نائحات).. ويقال كنا في (مناحة).. الخ.. وإذا تطلعت حولك.. بلا تحيز.. لوجدت أن الكلمات التي غناها عبدالوهاب في ثلاثينيات القرن الماضي لاتزال صحيحة.. وان كل صاحب معضلة يسعي لاستخدام التناوح لحل المعضلة.. خصوصا إذا لم تكن تستند لمنطق أو عقل أو قانون.. التناوح.. لا يقتضي إعمال العقل.. أو مناقشة القضية وإجراء الحوار الموضوعي بشأنها علي نحو ما يجري في الدول الراقية التي تصدر لنا الغذاء والكساء وفوانيس رمضان.. لأنه يخاطب العواطف.. ويحنن القلب علي رأي عبدالوهاب.. والنواح وحده يكفي. النوح.. هو البديل للعقل.. ولا يحتاج سوي تسخير طبقات الصوت.. لتحقيق المآرب والأهداف.. وكان أجدادنا من المكفوفين يفرقون بين الظالم والمظلوم.. بمجرد الاستماع لصوت كل منهما.. فيقولون »هذا صوت ظالم« وهذا صوت »مظلوم«. ويتعلم الطفل.. عندنا.. تحقيق المطالب بالتناوح.. منذ نعومة الأظافر.. باعتباره نوعا من الشطارة (والشاطر شاطر من يومه) فإذا لم تحقق له الأم رغباته.. بدأ النواح علي مقام »السيكا«.. واستمر في رفع المقامات »النواحية« إلي ان تصبح فوق كل قدرة علي الاحتمال.. فتتراجع الأم ليس لأنها تحققت من عدالة المطلب.. ولكن لأنها لم تعد تحتمل النواح.. ومن هنا يتعلم الطفل قيمة »الصياح«.. و»النواح« كأسلحة للحصول علي حقوق لا تستند لمنطق.. ويقول المثل الشعبي الشهير: »الديك الفصيح.. من البيضة يصيح«! ويتعين علينا في هذا الصدد الاشارة إلي الدور الذي تلعبه الممارسات المحيطة بالطفل.. ولاسيما في سنواته الأولي.. حيث تتشكل في وجدانه أساليب تلبية احتياجاته والتأثير علي الوالدين بالضغط عليهما عن طريق »الزن« و»التناوح«. وهي قضية.. تدخل في صميم التربية السليمة للطفل.. ففي دولة أوروبية.. تميزت بالتركيز علي الاعداد النفسي للأطفال في سني الحضانة.. نلاحظ.. ان الطفل »المذكر« يتربي منذ نعومة الأظافر ليكون رجلا.. ويعامل معاملة الرجال.. في الوقت الذي تعامل فيه »الطفلة« لتلعب دور الأنثي في المجتمع.. فليس مسموحا للطفل الذكر.. أن يبكي.. وعندما يهم الطفل الذكر بالبكاء.. تقول له الأم علي الفور »ارفع رأسك!«.. وهي جملة عجيبة فعلا ولا تقال إلا للأطفال الذكور.. أما الطفلة.. عندما تهم بالبكاء.. فإن الأم تأخذها في حضنها وتقبلها.. وتمسح دموعها برفق فيه الكثير من الدلال والأنوثة. ولذلك نلاحظ.. أنه في دولة.. مثل ألمانيا.. تتحدد أدوار.. كل جنس.. ذكرا أو أنثي منذ سنوات الطفولة المبكرة.. فالطفل يتربي ليكون رجلا.. ويتصرف تصرفات الرجال.. والطفلة تتربي لتكون ربة أسرة.. وهي الوحيدة التي تساعد الأم في كل ما يتعلق بالشئون الحياتية للأسرة.. أما الطفل الذكر.. فهو الأقرب لوالده.. يتعلم منه تصرفات الرجال.. ولا يسمح له بالبكاء علي الاطلاق حيث تقال له جملة »ارفع رأسك«!. هذه الملامح الأساسية للتربية في السن التي تتشكل فيها أمخاخ الأطفال.. ويتلقون خلالها القيم التي تحكم المجتمع.. هي مسئولية دور التربية.. والجهات الرسمية المنوط بها المحافظة علي القيم.. والسلوكيات.. وأساليب النظافة.. وجمع القمامة وتصنيفها.. والأساليب الصحيحة للاقتصاد في استهلاك المياه.. والأساليب الصحيحة للمطالبة بالحقوق.. دون الحاق الدمار بالصالح العام أو قطع خطوط السكك الحديدية.. أو اضراب عمال النقل العام.. أو الأطباء.. أو العمال في وزارة الثقافة.. الخ. الطفل في الدول الراقية يتعلم أساليب المطالبة بالحقوق منذ نعومة الأظافر.. ويتعلم ان »النواح« لا يحقق له مآربه مهما صرخ وناح.. واستخدم كل أساليب »المهابرة«! عندنا يحدث العكس.. وتسير الأمور علي نهج أغنية محمد عبدالوهاب (أحب نوحي.. اكمن نوحي بيحنن قلبك). الطفل في بلدنا.. يتعلم.. ان حنان القلوب.. لا يتحقق إلا بالنواح.. أو (النياحة) وعمل »مناحة«.. وان يملأ الدنيا »نياحا«.. الأمر الذي انعكس بالدرجة الأولي.. علي حالة التلوث السمعي التي نعيشها.. والتي جعلت بلدنا الغالي هو الدولة رقم واحد في ظاهرة التلوث السمعي و»الضوضاء«. وارتفاع الأصوات بلا مناسبة واستخدام مكبرات الصوت.. علي نمط لم تعرفه البشرية من قبل.. وباتت مضرب الأمثال في الضوضاء التي قضت علي قدرتنا علي الابتكار والابداع. والاستمتاع بالشعر الذي يسلب الألباب. وفي ضوء هذا الواقع المؤسف.. كان من الطبيعي أن تنتشر المطالب الفئوية بشكل لم نعرفه من قبل في تاريخنا الحديث.. وان تأخذ كل واحدة منها نهج »المناحة«.. والنواح.. والنساء النائحات وأن يخرج الأطباء في مناحة ومعهم عمال النقل العام.. في مناحة ومعهم العاملون في مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب.. ومعهم الألوف من رجال التربية والتعليم المنوط بهم تقديم النماذج والقدوة للتلاميذ.. ومعهم آلاف الدعاة في وزارة الأوقاف الذين لا يزرعون ولا يحصدون ولا ينتجون.. ولا يوفرون لأنفسهم الأطعمة التي تنتجها أيادي الشرفاء في الخارج والداخل.. ولا نعرف ما اذا كانت أصوات نياحهم من قبيل الحلال أم الحرام؟ وهذه الأعمال التي تعد من قبيل (النواح الجماعي) والتي صدمت ملايين المصريين بعد الحالة الثورية المجيدة التي اندلعت في 52 يناير 1102.. كانت فريدة وليس لها مثيل في الثورات التي عرفها العالم.. لسبب بسيط.. هو ان أهداف أي ثورة.. تفوق المطالب الفئوية.. مهما بلغت من أهميتها.. أهداف الثورات المجيدة التي يسقط فيها الشهداء.. وتهون الأرواح من أجل انجاحها.. تشحذ الهمم.. وتوحد الصفوف.. وتدعو لاتقان العمل الذي يؤدي لعمران البيوت والأوطان.. في كل الثورات العظيمة ضاعت أصوات النواح.. ورأينا أعمال التضحية التي تفوق الوصف.. وتصدر أهل الشهامة والمروءة والحمية وذوو الغيرة والأنفة.. جهود الخدمة العامة.. ورأينا العديد من النماذج في ألمانياالشرقية والمجر.. ورومانيا.. التي ضرب فيها قائد الحرس الجمهوري المثل الأعلي في الوطنية.. عندما قام بتسليم قائده وزعيمه شاوشيسكو للثوار.. بمجرد توقيعه قرار اطلاق النار علي المتظاهرين.. الخ. وليس خافيا.. علي أي مصري. وطني.. شريف.. ان وطننا الغالي ينزف.. وهو في حاجة لأن نسارع بتزويده بكل قطرة دم تجري في عروقنا.. وليس استنزافه.. تحت شعارات تخفي في طياتها خناجر الغدر.. وربما الخيانة العظمي. ما الحل؟.. الحل.. اننا في حاجة إلي (ثورة ثقافية) علي النحو الذي جري في الصين.. وهي الثورة الثقافية التي قادها الزعيم الصيني ماوتسي تونج.. بعد ان اكتشف ان جميع برامجه للاصلاح الاقتصادي علي مدي أكثر من 51 سنة قد باءت بالفشل.. وبعد أن اكتشف ان بلاده في حاجة إلي اصلاح ثقافي.. يزيل آثار المعتقدات والأفكار التي تقلل من شأن العمل والانتاج والاجتهاد.. واستبدالها بالمعتقدات المعاصرة التي تواكب الزمن وتقدر قيمة النظافة الشخصية وعدم الانقطاع عن العمل من أجل التفرغ لنشر الخزعبلات والخرافات التي كانت سائدة في الصين من آلاف السنين. الاصلاح يبدأ.. عندما لا ينوح مواطن واحد.. كي يخفق قلب الحبيب.. الذي يكفله وعندما تكون من سمات الأخلاق الحميدة.. والاستقامة أن يخرج الرجل من بيته لمكان عمله.. وليس لمكان اعتصامه لتعطيل مسيرة وطنه.. كفاية نواح.. يا بلد!