بعد 25 يناير الماضي مباشرة ، بدأت سلسلة مقالاتي هنا بعنوان " قراءة أولي في وقائع ثورة الغضب " ، وبعد ستة أسابيع من متابعة الأحداث بدأت أستشعر أن ما يجري علي الأرض يختلف عما كان يجب أن يحدث . فبدأت سلسلة أخري من المقالات بعنوان استفساري : " أين الثورة ؟" . قادتني هذه السلسلة إلي مكتبة الإسكندرية . ولما كتب أحدهم مستنكرا أن أربط بين الثورة والمكتبة ، غيبت عنوان " أين الثورة " واستغرقتني المكتبة لأثبت أن ما هو خطأ يظل خطأ سواء كان مرتبطا بثورة أم لا، لكن الإحساس بالخطأ يتفاقم أثناء الثورات بالطبع. اليوم ، ونحن علي بعد أكثر من ثمانية أشهر علي 25 يناير يظل السؤال قائما : أين الثورة؟ قلت من البداية أنه لا يمكن تقويم ثورة تقويما علميا إلا بعد انتهائها. انتهاء ثورة يكون إما بالتحقق من فشلها أو التحقق من نجاحها. الفشل والنجاح كلاهما مرتبط بأهداف هذه الثورة . ولا يمكن لأي محلل أن يقرر اليوم ما إذا كانت ثورة يناير قد فشلت، ولا يمكن أيضا أن يجيب بنجاحها. فالأحداث لا تزال تتراكم في الشوارع وفي الميادين . ولا يزال ميدان التحرير مفتوحا لتظاهرات يوم الجمعة وربما لما هو أكبر . بدراسة طبيعة ثورة 25 يناير من جهة ، ومقارنتها بغيرها من الثورات في التاريخ الحديث، يمكن القول أن أمامها تحديات جساما حتي تحقق النجاح . وأن احتمالات الفشل اليوم تساوي احتمالات النجاح . هذا يجب أن تأخذه القوي الثورية في مصر في الاعتبار . أكبر تحد أمام هذه الثورة أنها جاءت تلقائية شعبية غير منظمة وبدون قيادة . وقد زاد من هذا التحدي نجاح الثورة في إسقاط عدد من رموز النظام عن مناصبهم وإدخالهم السجن والبدء في محاكماتهم التي وصل بعضها إلي إصدار أحكام بالسجن . ولم تنته المحاكمات بعد ، وبخاصة المحاكمة الأكبر . هذا هو نجاح الثورة الوحيد حتي الآن . هذا النجاح الجزئي ، وإن كان جللا ، زاد من تحديات الثورة ولم يقللها . أي لم يسهل الطريق أمامها بل زاده صعوبة . ذلك أنه صنع وهما كاذبا بنجاح الثورة ، أدي إلي صراعات بين قوي وجماعات مختلفة لتحقق كل منها أهدافها . ينتمي كثير من هذه القوي والجماعات إلي نمط الحياة السياسية الذي قام في مصر منذ يوليو 1952 وكان نظام الرئيس السابق امتدادا لكثير من جوانبه . التخلص من هذا النمط السياسي طويل العمر تحد آخر صعب أمام نجاح ثورة 25 يناير . إذ يستلزم القضاء علي ثقافة هذا النمط التي تغلغلت في تكوين شخصية أغلبية كثيرة من المصريين . وبقول آخر أن التحدي الأكبر قبل نجاح ثورة 25 يناير هو تحد ثقافي فكري في الأساس . يعني تغييرا جذريا في الأفكار والمعتقدات وبالتالي في السلوك والسياسات. ومن المعلوم أن هذا التغيير يتطلب زمنا ليحدث . المشكلة أمام من يكتب عن الثورة أن سيل الكتابات والكلام عنها لا يتوقف في كل وسائل الإعلام . حتي يمكن القول أن هناك فوضي في الكتابة عن الثورة تشبه فوضي ما يحدث في الواقع أيضا. اندهش من جرأة بعض الكتاب علي إصدار كتب عن الثورة . ربما يكون مصدر هذه الجرأة إغراء دور النشر للاستفادة تجاريا من عنوانها. فأصبح ناشرون يطلبون كتبا عن الثورة لأن هذا الاسم " يبيع ". ودخلت الثورة في مجال الاستغلال التجاري. دون أن يتوقف أحد أمام سؤال حقيقي : أين هي الثورة التي عنها تكتبون ؟ كتب غيري ، وكتبت، أن الثورة لم تقم لمجرد إسقاط بعض الشخصيات الحاكمة عن مناصبها، أو حتي دخولهم السجن ومحاكمتهم. قامت الثورة من أجل إسقاط نظام وليس إسقاط أشخاص . كتب غيري ، وكتبت ، أن النظام لم يسقط. وحتي اليوم فالنظام لم يسقط . لسبب بسيط أن سقوط النظام يعني سقوط ما قام عليه هذا النظام من فكر وفلسفة وسياسات . وظهور فكر وفلسفة وسياسات جديدة مناقضة لتلك التي اعتمدها النظام السابق. هذا لم يحدث حتي الآن. لا الفكر ولا الفلسفة ولا السياسات السابقة سقطت، ولا حل محلها فكر وفلسفة وسياسات جديدة . هذا لن يحدث إلا عبر نضال شعبي سيكون طويلا في حالة مصر نظرا لما هي عليه من تخلف في مجالات الحياة : الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية والسياسية بالطبع . شكل نجاح الثورة الجزئي استثناء لم يلغ القاعدة. لا يمكن لثورة إلا أن تنشد التقدم. قل ما شئت : ثورة ضد الظلم فالظلم تخلف ، ضد الفساد فهو تخلف، ضد الفقر تخلف أيضا ، ضد الجهل وهو صلب التخلف ، ضد الدكتاتورية قمة التخلف.. وهلم جرا. نشرت هنا من قبل سلسلة طويلة من المقالات بعنوان " ويسألونك عن التخلف "، توقفت فيها في المقالة العشرين عند بدايات القرن العشرين، وآمل استكمال هذه السلسة. لأكمل قراءة مسيرة طويلة من التخلف عبر التاريخ في مصر منذ بداية الدولة الأموية وحتي نهاية القرن العشرين . تظهر هذه المسيرة ما نرزح تحته من قيود ثقيلة . وتظهر كذلك ما قام به مصريون من انتفاضات وثورات ضد هذا التخلف وللخلاص من قيوده الثقيلة . لذا فأنا أعتبر ما يحدث منذ بداية ثورة 25 يناير وحتي تكتمل صفحاتها حربا ضد التخلف . لا أعتقد أن الزمن سيعود إلي الوراء . لكن المؤكد أن الانتصار في الحرب ضد التخلف سيكون فادح الثمن. وهذا من دروس التاريخ .