»كتاب التجليات« رواية طويلة ومرثية أطول للأب والزعيم، وكان المرحوم خالد عبدالناصر يحفظ عن ظهر قلب هذه الصفحات التي استعيدها اليوم تجلي المستحيل .. رأيت جمال عبدالناصر، المكان محدد، والزمان معين، رأيته في ميدان الدقي، أول الثمانينيات، التي كانت بعيدة، وتولي الآن كأطياف، من قبل لم أره إلا مرة واحدة، يعبر شارع رمسيس، أقف فوق الرصيف. مر أمامي. بدا قريبا جدا مني. خيل إلي أنه رمقني من خلف زجاج سيارته. ومن قبل رأيته في يومي العيدين، الكبير والصغير. لم يكن العيدان يكتملان إلا عندما نشب علي اطراف اصابعنا، ونرقب ظهور الدراجات البخارية وسيارات الحرس، ثم عربة المصورين، ثم يهل علي المحتشدين، بفوديه مشيب، تحيطه لمعة، فلا تري إلا هو. في تلك السنوات كان ابي يحمل أخي الاصغر، ثم يطاول بعنقه الواقفين، في هذا التجلي رأيته بلا حرس. بلا مصورين، بلا ضجيج لكنه بدا شاهقا خارج الزمان الأرضي. يفوق وجوده المادي بوجود غير مرئي. الناس حوله ماضون. لاينتبه أحد. لايلتفت أحد. اندفعت تجاهه، رأي اقبالي، تحول بعينيه ناحيتي، ولاحظت انه منهك، متعب، قلت محملا صوتي معاني الحنين الذي لايمكن تفسيره، والتفسيرات المطلوبة، والكلوم المدفونة.. ايه .. كيف حالك.. مالك؟. هل تعرفني.. ومن لا يعرف من لايُعّرف؟.. هز رأسه، وهنا لاحظت أن المشيب طق في رأسه كله. إذن .. أنا في مصر.. دهشت.. صاح.. ولكني أري مالا يجب ان يري توقف لحظة، ثم بدأ ينطق كلماته من خزائن الحيرة والتساؤلات.. هل اخترق الاسرائيليون الجبهة؟. قلت: لا. هل وصلت جيوشهم إلي القاهرة؟. قلت: لا. قال، ماذا أري إذن؟ فسر لي، اشرح لي، تأخرتمونا في الزمان، وتقدمناكم، أجبني، أليست هذه أعلامهم؟ أليس هؤلاء سياحهم؟ أليست هذه كتبهم وصحفهم؟ قلت: هذا حقيقي، انني ضد ذلك، ولكنني لا أجاهر خوفا وتقية.. قال متعجبا: ماذا جري؟ هل انقلبت الآيات؟؟ بدا صوته غريبا، بدأ غير حقيقي، سألت نفسي يوما، أحقا عشت زمانه؟ هل رأيت عنه وله؟ لكن هاهو أمامي، لاحظت ان الناس يتجمعون، بعضهم يحدق، وان منهم من أدرك قولي، ومنهم من عرف فدنا، قلت والجمع يتزايد: سأشرح لك.. ولكن فوق كل ذي علم عليم. تجلي الأماني قال تعالي: »وغرتكم الأماني« صدق الله العظيم. أماني النفس حديثها مما ليس عندها، صاحبها خاسر، يلذ له الزمان بها، فإذا رجع مع نفسه لم ير في يده شيئاً، فحظه كما قال من لا عقل له.. أماني أن تحصل تكن أحسن المني والا فقد عشنا بها زمنا رغدا. تجلي الانتصار .. سريت في النور الاخضر، في زمن الزهور المرجو، فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميل عند شاطئ المحيط، أرحل، وأعبر الحدود بلا راد أو مانع، دخلت سيناء الابدية، ورأيت آثار الحرب القديمة، وهياكل الدبابات. واستعدت لحظات اختراق الشظايا الجسد الإنساني، وصرخة الألم، وتذكرت أيامي عندما عملت مراسلا حربيا، أنقل إلي من لا أعرفهم ما يجري. ما يقوم به أبناء الوطن، كان من الممكن ان أموت في تلك الأيام التي لا يذكرها إنسان الآن، كنت سأصبح نسيا منسيا في زمن السوء، وزمن التجليات، استمر سرياني في الشعاع الاخضر، عبرت سيناء، سلكت طرقا ممهدة إلي الدهر الفلسطيني. رأيت اللافتات عربية، والمقاهي، والضحكات، والحياة اليومية ومررت بمدن بدت لنا كحلم لطول ما انعزلت عنا، ورأيت بقايا حروف عبرية علي لافتات صفراء تركت كذكري وعبرة كل شئ عاد إلي أصله، و »إن عدتم عدنا« قال دليلي، لماذا تقرأون ثم تنسون؟ هل نسيتم أن عدة ممالك قامت هنا تحت علامة الصليب، واستمرت ما يقرب من قرنين، جيوش، وخيول بريد، ونظم، وأجهزة دعاية، وأمراء، وأتباع، وفرسان الداوية، ثم زال هذا كله، لم يقل أهل ذلك الزمان بالأمر الواقع. تنبهت إلي الغضب في صوت دليلي، تنبهت إلي شحوب اللون الاخضر، إلي أن أوان التجلي ينذر بانتهاء، رأيت أبي، هو دليلي ومرشدي، بدا متعبا، كما رأيته دائما في الاعوام الاخيرة، السنوات التي لم أدرك في حينها أنها أخيرة، انتبهت إلي بناء قديم، مدخله غريب كأنه لايؤدي إلي شئ، جدرانه من الدبش، خلو من النوافذ، قال »أنذرتكم ولم تنتبهوا، أبديت الإشارة تلو الاشارة فلم تعقلوا، نبهتكم فتجاهلتم، حاولت فتعاميتم، لماذا الحزن؟«. ولي بوجهه الأسيان، نأي صوته عني، تختفي نبراته وتضيع. »علي أي حال، سيأخذ الحزن وقته، ثم يولي كل شئ..« هممت بالرد، فثقل لساني.. تجل يقيني .. ما من شئ يثبت علي حاله، لو حدث ذلك لصار العدم، كل شئ في فراق دائم، المولود يفارق الرحم، الإنسان يفارق من دنيا إلي آخرة مجهولة بلا آخر، البصر يفارق العين إلي المرئي، ثم يفارق المرئي إلي البصر، الليل يفارق النهار، والنهار يفارق الليل، والساعة تفارق الساعة، والدهر يفارق الدهر، الذرة في فراق دائم عن الذرة، الجسد يعانق الجسد ثم يفارق،نبت الأوراق غضة، خضراء، ثم تفارق الاغصان، الفكرة لا تلحق بالفكرة، والصورة لاتمكث في الذهن، يجئ شتاء، ويجئ صيف، ثم ربيع ثم خريف، كل يفارق إلي حين، كل في فراق دائم، الذات تفارق الذات، حتي الاشياء التي ظننا انها باقية ابدا، حتي الأيام التي اعتقدنا انها لن تتبدل قط، ولن تتغير، ولن تزول، كل شئ، كل شئ في فراق، كل شئ يتغير، كل شئ يتغير.. فلنفهم!. تجلي المحاولة .. تجلي لي عبدالناصر ثانية، بدا غاضبا، لكنه يفعل، أمر بتنكيس أعلام الأعداء، وإزالتها من فضاء القاهرة، أمر بإلقاء القبض علي جميع أفراد العدو المتواجدين في الديار، من سفير وأعضاء سفارة، ومندوبين، وممثلي هيئات، وجواسيس، ورسم باعتبارهم أسري حرب، أمر، وأمر، لم يمتلك قلما وشعارا يوقع به، إنما طاف بالميادين يزعق، يصيح، فالوسائل معدومة، والحيلة واهية، والقدرة قصية، والوجوه غريبة، والسحن غير معهودة، والأيام غير الأيام، والزمن خلاف الزمن، كان باستطاعته أن يبصر ما لا يبصره الآخرون، أخذه الهول، وتملكه جزع، ما يراه لم يتخيله يوما في صحو أو منام، ما يدور قاس، عبر النهر، والمح أطياف الأهرامات وتجلي في الميدان الكبير، رآه غيري، لم يصدقوا عيونهم، ولي بعضهم فراراً، وامتلأوا منه رعبا، وتعلق به آخرون، اعتقدوا فيه، مشوا خلفه، بثوه، شكوا إليه، وعاتبته عجوز عمياء ادركت صوته، فشا الخبر في الخلق، هرول مراسلو الصحف الاجنبية، استقصوا، واستفسروا وتحلقوا، ودنوا، ظهرت الأخبار في موجزات الأنباء، وقع الاضطراب في أسواق النقد العالمية، اهتز الدولار، واضطرب الاسترليني، وازدهر الين، استنفر الناتو والساتو، وأعلن زعماء حيروت والمابام وما شابههما، إنها الحرب!، من الحواري خرجت النسوة حاسرات، مصفقات، ضارعات، شاكيات، خرج جمع من هنا وجمع من هناك، وأحجم قادة مراكز الشرطة عن اتخاذ قرار انتظاراً لما ستسفر عنه الأحوال، ارتجفت صدور، وأينعت قلوب، واختلف آخرون، وفجأة خرج جند كثيف، أعمارهم تدور حول العشرين، يقودهم ضابط يرتدي رداء أسود غطيس، حلة غريبة، مليئة بالجيوب، والطلقات، يمر بمرحلة الزهو بنجمتي الرتبة التالية للتخرج، والمخايلة بالزي الغريب المستحدث، أشهر خنجراً، دفع عبدالناصر في صدره، وأومأ، فتدافع الجند، اقتادوه فتفرق الخلق، نزل صمت بغيض، ثقيل، فأينعت الهموم، وتدفقت مياه جديدة في أنهار البلوي.. ترتيل »وشروه بثمن بخس، دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين« »والله غالب علي أمره، ولكن أكثر الناس لايعلمون« صدق الله العظيم تجلي الكدد رأيت محمد أحمد بن إياس الحنفي المصري، بدا مهيبا، تفوح منه رائحة الريحان الذي ينمو فوق المقابر، بالضبط كما تخيلته وأنا أقرأ بدائع الزهور في وقائع الدهور. جئتك من قبل.. قلت: أذكر عودتك في عام الهزيمة.. لكنك تركتني. قال: ينأي الحكيم عن حميمه إذا أوحشت الدار.. قلت: القلب سليم، والود بين جوانحي مقيم.. سألني: لكنني أراك مكدودا. قلت: مات أبي وأنا في غربة، لم أر اغماضة عينيه، ولم أحمل جثمانه، ولم أشهد لحظة مواراته، ولم أدر، ولم أعرف، ولن أدرك ماذا رأي في اللحظات الختمامية، أو أي الصور أو الاطياف التي تجلت وتبدت له.. قال: هل لك علامة؟ قلت: ثقل قلبي حتي موتي.. قال: ياحبيبي، لا تحجبنك الحيرة عن الحيرة، أني للمقيد بمعرفة المطلق. قلت: زدني ياخلي.. قال: تجل وتجل، ان النائم يري ما لايراه