من المفترض أننا في ثورة، وأن شئون المستقبل تهم جميع المصريين. ومن هذا المنطلق أصبح الكلام حقًا لكل مواطن: الثوريون جنبًا إلي جنب مع الفلول التي تنقسم إلي فلول مخدومة من أصحاب المصلحة الأصليين وفلول خادمة، اعتادت الخدمة ولو مجانًا نظير لقمة أو قربا من حذاء سلطة. مئات الطعنات تتلقاها الثورة، ويتلقاها شباب الثورة، الأحياء الذين لا يزالون يحلمون بمصر أخري والشهداء الذين ذهبوا ولم يروا بؤس ما ضحوا من أجله. وقد بدأت المسألة باتهامات للثوار بعرقلة الإنتاج، من دون أن يسأل هؤلاء أنفسهم: ولماذا لم تتحقق مطالب الثوار؟ والآن تطور الأمر إلي اتهامات بالعمالة لجهات أجنبية. ولا يمكن التصدي لكل السموم التي تنضح بها كتابات الفلول وخدم الفلول، وستبقي هذه الكتابات خطرًا شديدًا قائمًا علي الثورة، لأنها تحاول أن تثير الكتلة الصامتة الكبيرة من المصريين ضد الشباب الذين انتفضوا لتحريرهم. والأخطر من كتابات الفلول وخدم الفلول ما يأتي من شخصيات لها اعتبارها العلمي، وفضل السبق الوطني، مثل الدكتور جلال أمين الذي رأيت من الضروري أن أتعرض هنا لمقاله المنشور يوم الجمعة الماضي في جريدة الشروق تحت عنوان: "ألغاز الثورة المصرية". الرجل يمثل قلة من جيله لم تتغير ولم تتلوث. وكان أقرب إلي شباب الثورة بواحد من كتبه الأخيرة "ماذا حدث للمصريين" ولكن ميزة الثبات علي المبدأ ليست ميزة عندما يتعلق الأمر بالمنهج والبحث العلمي. وقد ثبت الرجل علي منهجه وظلت كتاباته أقرب إلي قراءات انطباعية في الاقتصاد والمجتمع. ولعل قمة التبسيط لدي جلال أمين كانت في مقاله الأحدث ب "الشروق" الذي يمثل ثورة شك في الثورة ودوافعها تأخرت ثمانية أشهر، وليتها كانت ثورة باحث علمي، بل ثورة شعبية تردد ما يردده عوام الكتلة الصامتة بطيبة وسلامة نية وما يردده الفلول بسوء نية. في البداية يعبر الدكتور عن دهشته لبقاء العديد من الأسئلة مثل ألغاز بلا إجابات، ويبدأ من ثورة تونس، فيقول نصًا: " إني أكاد أتصور الأمر وكأنه يشبه قصة بوليسية غامضة، أحداثها تبدو متناقضة، ولا يؤدي بعضها منطقيا إلي البعض الآخر. كذلك أحداث ثورة 25 يناير في مصر، فيها من الألغاز والتناقضات ما يطلب التروي الشديد في محاولة فهمها. نعم لقد قامت ثورة 25 يناير في مصر عقب ثورة ناجحة في تونس. ولكن هل كانت ثورة تونس نفسها مفهومة تماما وخالية من الألغاز؟ غضب الشعب التونسي مفهوم تماما، مثلما كان غضب المصريين، ولكن النظام البوليسي في تونس كان يبدو مستقرا وواثقا من نفسه، مثلما كان النظام البوليسي في مصر، وكلاهما كانا مدعومين بقوة من دول خارجية، تغدق عليهما المعونات والأسلحة، فكيف انقلب كل هذا فجأة إلي ضده؟ وما الذي جعل التجمهر الواسع علي هذا النحو ممكنا فجأة، بعد أن كان محظورا وممنوعا بقسوة؟ هل الإجابة أن لكل شيء نهاية، ولابد أن ينفد الصبر بعد حين؟ ولكن لماذا ينفد صبر المصريين في نفس الوقت الذي ينفد فيه صبر التونسيين والليبيين واليمنيين والبحرانيين والعمانيين والسوريين؟". الاقتباس طويل نسبيًا، لكنه يمثل صلب المقال، وقد أتبع الكاتب شكوكه هذه بسرد لوقائع لم تغب عن ذهننا، مثل الدعوة إلي مظاهرة 25 علي الإنترنت قبل حدوثها، وعن غياب الشرطة يوم 28، متسائلاً: ألم يكن بوسع السلطة منع المتظاهرين من الوصول إلي التحرير؟ ولماذا أخلت الموقع؟ وبعد أن يشبعنا أسئلة من هذا النوع يختتم من دون أن يقترح إجابات؛ فلا يبقي أمامنا إلا الاقتناع بأن العالم الجليل يري الثورة مؤامرة إشترك فيها الثوار والنظام الذي أسقطته والقوي الدولية، التي رفعت فجأة زرار تثبيت الأنظمة وداست في ذات اللحظة زرار خلعها! يمكن لتتابع الثورات العربية أن يحير المواطن البسيط، بينما لا يجب أن يحير عالمًا؛ فمن السهل علي العالم أن يدرك أن اللحم تم شراؤه من ذبيحة واحدة، فكان من الطبيعي أن ينضج في كل القدور (الحلل) في التوقيت نفسه. وقد وصلت المجتمعات العربية إلي الانفجار في الوقت نفسه لأن بدء ظاهرة النهب كانت متزامنة. لم تكن هناك ديمقراطية لكي تغير المجتمعات العربية، وبعد كامب ديفيد لم تعد هناك حرب. والحرب تغير المجتمعات التي لا تتغير بالديمقراطية، حيث يموت قادة أو يتعرضون للعزل أو يتقدمون الصفوف طبقًا للهزيمة والنصر. وانعدام فرصة التغيير في قمة السلطة جعل الأنظمة الجمهورية بلا استثناء تتحول إلي التوريث، وتحتكر ثروة المجتمع في ناد مغلق علي الكبار، وفي الوقت نفسه كان الإنترنت يخلق جيلاً جديدًا من الشباب يؤمن بكرامة الفرد وبقيم المساواة والعدالة. من قاد هذه المؤامرة، سوي مصادفات الزمن التي جعلت الصدام حتميًا؟ من غير المعقول أن يتآمر زين العابدين أو مبارك ضد نفسه، أما القوي الأجنبية فنري كيف تبكي الآن دمًا لنجاح الثورات، ولم تزل تحاول إفشالها بتثبيت الأنظمة كما كانت بعد حذف وجه الرئيس ووريثه من كل بلد. أعتقد أن الأمر بلا ألغاز تستوجب ثورة الشك عند شخص بسيط؛ فما بال شك الدكتور يثور؟!