من واقع الخبرة والتجربة الطويلة فانني لم اتجاوز الحقيقة عندما وجهت اللوم الي أجهزة الاعلام بمسئولياتها عن ادخال الوطن في دوامة من الفوضي والتسيب والانفلات وعدم المسئولية. جري ذلك من خلال الادعاء الكاذب بتبني مطالب الديمقراطية التي غابت عنا طويلا وجاءت ثورة 52 يناير لتبشرنا بعهد جديد لم نستطع حتي الآن استثماره لتحقيق ما نتطلع اليه ونتمناه. هذا الوضع قادنا إلي الاحساس بالاحباط واليأس. لم يكن ما حدث من بعد ظهر جمعة تصحيح المسار سوي انعكاس لهذه الحالة التي ساهم فيها الاعلام بسوء الاداء والارتكان الي المبالغة والتجاوزات والاثارة في صناعة التداعيات الي الدرجة التي وصلت بنا الي حافة الهاوية. ان اهم ما نحتاج اليه في مرحلة ما بعد الثورة هي الثقة في النفس وأن يشعر الجميع سواء الذين يتخذون القرارات أو الذين يخضعون لها بأن أخلاقيات الثورة تتطلب البعد تماما عن آفة التصيد لبعضنا البعض. كان من الضروري أن يؤخذ في الاعتبار ايجابية وسلامة اتجاه الدولة للعمل علي أن يتسم النشاط الإعلامي بالانضباط الذي يتفق مع مواثيق الشرف ودون المساس بحرية الرأي والتعبير. ان أي إعلامي مهني يهمه صالح هذا الوطن سوف يرحب بأن يلتزم الإعلام بأخلاقيات الأداء والحرص علي المصلحة الوطنية بعيدا عن الإثارة وسطحية التناول. في هذا الإطار أتمني أن تختفي من حياتنا الإعلامية ظاهرة محترفي تسويق الأحاديث التليفزيونية من كل شيء ونوع. بالطبع فإن محترفي هذه الاحاديث الممجوجة ما كان يمكن أن يجدوا لهم سوقا يعرضون من خلالها بضاعتهم المستهلكة إلا من خلال نقص الخبرة والثقافة الإعلامية وعدم توافر الحد الأدني من المعلومات عن القضايا التي يتم اثارتها. في مقال اليوم.. استكمل ما تناولته الخميس الماضي حول انحراف بعض وسائل الإعلام المرئي عن مهمتها. في هذا المجال يهمني هنا أن ألفت النظر إلي أن القائمين علي هذه الفضائيات وبدلا من أن يعملوا علي مداواة جراح سنين ما قبل الثورة والتوجه نحو الطريق الصحيح.. جنحوا إلي تعميق الجراح واشعال الاحقاد واثارة النفوس والتحريض علي وقف عجلة الحياة وتعطيل كل المرافق. إن مبادرة الدولة لترشيد العمل الإعلامي والتي جاءت متأخرة لم تقتصر علي اتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة ضد القنوات الفضائية التي اتسم اداؤها بالانحطاط الإعلامي.. وانما شملت ايضا قرارا آخر لوزير الاعلام أسامة هيكل بوقف اصدار تراخيص جديدة للقنوات الفضائية- بصفة مؤقتة-. منعا للقيل والقال كان لابد أن أقول انه ليس لهذه القرارات أي علاقة بحرية الاعلام والتعبير حيث إنها تنصب بشكل أساسي علي حماية أمن مصر واستقرارها. الأمانة تقتضي النظر إلي فلسفة وأهداف هذه القرارات في ضوء ضرورة السمو بالعمل الإعلامي والارتفاع بمستواه المهني والأخلاقي والوطني. لا يجب تناول الدور السلبي للاعلام المرئي دون الاشارة أيضا الي ما انتاب الاعلام المقروء من انحرافات وجنوح نحو التطرف والمبالغة والتهويل في تناوله للقضايا المصيرية المثارة بعد الثورة. لقد تجاوز في سلوكه الدرجة التي تتعارض وتتناقض مع القيم المهنية الصحفية التي تلتزم بالمصداقية والأمانة ونشر الاخبار الموثقة البعيدة عن الاثارة. إن ما قامت به الصحافة وبالاخص - وللاسف - الصحافة القومية من إثارة ومبالغة وقفز علي الحقائق لا يقل في حجم الخطايا عما كانت تقوم به قبل الثورة من تغطية علي الاخطاء والدفاع عن المفاسد والجنوح إلي النفاق. ولا يمكن القول بأن الصحافة المستقلة أو الحزبية بريئة من هذا السلوك وإن كان من الممكن اعتبارها اقل سقوطا في مستنقع هذه المفارقة مع الاخذ في الحسبان انها مستقلة وحزبية!! كم أرجو أن تمتد اجراءات معالجة انحراف الاعلام المرئي بما يستهدف صالح أمن واستقرار مصر ما بعد الثورة لتشمل الإعلام المقروء ان هذا يتطلب خطوة جريئة تستهدف تغيير قوانين الصحافة بما يضمن تحقيق الانضباط الأخلاقي دون المساس بالديمقراطية وحرية التعبير والنقد الهادف ومحاربة الفساد بكل أنواعه.