الانتفاضة الشعبية السورية تدخل شهرها السادس، وفات أوان الرهان علي الإصلاح.. بل ان الرهان علي النظام الحاكم القائم الآن في دمشق أصبح خاسراً. لقد انتهي وقت الحديث عن إجراء إصلاحات لإنقاذ النظام من مصيره المحتوم.. حتي لو كانت إصلاحات فورية. ومع توغل حاكم سوريا في الحل الدموي.. ماتت العملية السياسية. ومع ارتفاع عدد الشهداء واتساع نطاق القمع الوحشي.. تخرج البلاد من قبضة بشار الأسد وتلوح في الأفق بشائر تحررها من نظام الاستخبارات والاعتقالات والتعذيب والإرهاب والدولة الأمنية واحتكار السلطة وسطوة النظام الشمولي. وفي شهر رمضان المبارك سقط 374 قتيلا سوريا، كما ان 88 مواطنا ماتوا في السجون من جراء التعذيب في نفس الشهر. وتقول الأممالمتحدة ان 0002 مدني استشهدوا خلال الحركة الاحتجاجية، كما ان الآلاف هربوا من قراهم بسبب الهجمات التي تشنها السلطة علي بيوتهم ويقيمون الآن في ستة معسكرات بإقليم هاتاي داخل الحدود التركية. ثمة ازدراء وحشي للحياة البشرية نشهده يوميا في شوارع المدن السورية. وما رأيناه خلال الأشهر الخمسة الماضية هو »سوريا أخري« تطالب بالحرية والكرامة والمواطنة بعد أن أصبحت السلطة محنطة وتستعصي علي الإصلاح. والرؤية المستقبلية لسوريا هي: ديمقراطية ودولة كل مواطنيها.. دولة قانون وحريات عامة تنبذ العنف والطائفية. ولذلك يتطلع السوريون إلي صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة تضمن الحقوق الكاملة لكل مكونات الشعب السوري، كما تضمن المشاركة السياسية لهذه المكونات. ولن يقبل شعب سوريا ان تحكم بلاده بالطريقة القديمة التي سادت خلال الثمانية والأربعين عاما من حكم حزب البعث، فقد كان ذلك الحزب هو الغطاء لحكم العائلة التي تحكمت في أرواح الناس وأرزاقهم وراحت تحصي أنفاسهم. وبعد أن تجاوز السوريون حاجز الخوف، واتخذوا موقف التحدي للاستبداد.. أدرك كل من لم يدرك من قبل أن الشعوب لم تعد قطعانا من الحيوانات الأليفة والمطيعة... لا هم لها سوي النجاة من عصا »الراعي«، ولم يعد هناك اليوم من يقدر علي تحويل البلاد إلي حظائر. الديكتاتور يشبه نفسه.. وليس شعبه، فهو من صنف خاص.. فوق البشر والمؤسسات، وفوق القيم والمبادئ والإنسانية، وهو معصوم من الخطأ، لأنه »الكامل«، فكراً وقولاً وممارسة! وغير مسموح بأن ينتمي أي فعل إلي سواه! ولا حياة للطاغية من دون قمع، وهو يعرف أنه إذا تراخت قبضته اقتربت نهايته، وإذا تجرأ شعبه.. يصبح سقوطه محتوماً. وفي نظر الديكتاتور، فإن الشعب غير موجود، أو لا يعرف مصلحته، أو يذوب حباً في معبوده (الحاكم)! ومشكلة معظم الحكام العرب انهم لا يريدون الاعتراف بأن العالم قد تغير وأن الأنظمة التي صنعوها غير قابلة للإصلاح. ولذلك فإنهم يتعاملون مع شعوبهم كما لو كانت هذه الشعوب نفسها هي »مؤامرة دائمة وكافية« في وجه الحاكم. وبعد عقود من الجهد الرسمي لاستئصال السياسية في المجتمعات العربية، وتوحيد الحاكم مع الأمة والدولة.. تصور الكثيرون ان الاستبداد العربي قد انتصر علي دروس التاريخ والسياسة واستطاع تكريس صيغة مؤبدة من حكم الطغيان دون اعتراضات جدية. وجاء هذا التصور نتيجة ما تحقق من عمليات تدمير وإتلاف مروعة للبني الاجتماعية عن طريق الضغط والقمع والإقصاء والتهميش والتوريط في عمليات الفساد.. مما أدي إلي إقامة شبكة معقدة من المصالح والمنافع تربط بين شخصيات معينة في المجتمع السوري وبين مؤسسات القطاعين العام والخاص التي يملكها النظام وحاشيته مما يعزز السلطة والتسلط الأمني علي كل من له مصالح أو علاقات مع هذه المؤسسات. وقد أمضي الكثيرون من المثقفين السوريين، الذين رفضوا أن يكونوا من أصحاب المغانم، فترة شبابهم وردحاً من كهولتهم في السجون والمعتقلات، أما من لم يدخلوا السجون، فقد اتجهوا إلي شغل أوقاتهم بحل الكلمات المتقاطعة! وأخطر ما فعله النظام الحاكم في دمشق أنه حاول تفريغ وتجريد السوريين من أي نزعة إنسانية.. ومن ضمائرهم. هناك أطباء سجنوا لأنهم اسعفوا الجرحي. وهناك حالات عديدة رفضت فيها السلطة تسليم جثث ضحايا القمع إلي عائلاتهم. وهناك جرحي في المستشفيات.. صدرت الأوامر بتركهم ينزفون حتي الموت. وهناك فنانات تعرضن لحملة تخوين لأنهن طالبن بوقف الحصار الغذائي الذي تفرضه السلطة علي مدينة »درعا«. وتحول مطلب تسهيل حصول الأطفال علي الحليب إلي »خيانة«! ماذا عن شعار رسمي كاذب عنوانه »المقاومة« و»الممانعة«؟ هؤلاء »الممانعون« أجهدوا أنفسهم في إنتاج خطاب سياسي أمني مفاده انهم الوحيدون الذين يواجهون »الإمبريالية والصهيونية«! وقد احتكرت هذا الخطاب نخب تنسب نفسها إلي »القومية« و»الإسلام«، زوراً وبهتاناً، بينما تقمع الفكر والرأي، والتعبير.. وحتي.. الأحلام. من الذي قال ان المقاومة والممانعة لا يمكن أن يكون لهما وجود.. إلا في ظل مصادرة حريات المواطنين وممارسة القمع والإرهاب والتخوين والتكفير وفتح أبواب المعتقلات؟ ومن الذي يزعم ان شروط المقاومة والممانعة تتمثل في ضرب الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة والوحدة الوطنية واستباحة دماء المعارضين واغتيالهم جسديا أو معنويا أو إعلاميا؟ ومن الذي يستطيع أن يدعي أن مقارعة الإمبريالية والصهيونية لن يكتب لها النجاح إلا عن طريق قتل الأبرياء وتدمير المدن والقري وترويع الناس عبر الظلم والإذلال والإفقار؟ إننا نعرف انه لا معني لأية مقاومة أو نضال وطني.. إن لم تكن من أجل الإنسان وكرامته وحريته وحقوقه وفتح الآفاق للتطور، بل اننا نعرف ان الامبريالية أو الصهيونية لا تخشي أنظمة الحكم العربية، بما فيها النظام الحاكم في دمشق.. وكثيرا ما يتغني الصهاينة ويشيدون بالهدوء والاستقرار في هضبة الجولان المحتلة منذ 44 سنة، ولكن الأعداء يخشون دائما.. الشعوب وحركتها في الشارع ومؤسساتها الديمقراطية. وقد برهن نظام الأسد علي أنه غير معني بالبلد ولا بالشعب ولا بالمقاومة أو الممانعة، ولكنه معني فقط بالبقاء في السلطة ومعه حاشيته وزبانيته. وعبر سنوات طويلة مضت كانت واشنطن تعتبر النظام السوري.. حليفا لها. ولما كان مرض السلطة.. مرضا مزمنا.. لا علاج له ولا شفاء منه.. فإن الورقة الأخيرة التي يحاول النظام السوري أن يلعب بها بعد أن فقد الغطاء العربي والإقليمي والدولي.. هي ورقة الطائفية والمذهبية عن طريق تصوير المواجهة بينه وبين الشعب علي انها حرب اشعلها المواطنون السنة ضد العلويين. وهذه أكذوبة مفضوحة. يقول الباحث السوري »يوسف عكاوي« ان الصبايا والشباب، الذين التقي بهم في المظاهرات في سوريا، كانوا من العلمانيين وأن هناك قسما بينهم من المسلمين المعتدلين ولم يكونوا متطرفين. وهم يريدون إقامة الدولة المدنية السورية الحديثة الوطنية.. التي لا مكان فيها للطائفية. وكما فشلت محاولة تجريد السوريين من إنسانيتهم.. سوف تفشل هذه الورقة أيضا. وكلمة السر: نبذ الطائفية محور إجماع السوريين.