مصر كما عرفها العالم.. أم الدنيا، حاضنة التاريخ، ملهمة الحضارة، لا يطول قامتها من وقف علي جبال المال أو اصطنع العظمة والكبرياء، وإلا فمن يقول أي دولة سبقت مصر الحضارة في محاكمة زعماء لها، ومن العجب ما حدث.. بمظاهرات سلمية.. سر عظمتها سلميتها، وبدون قيادة، وسر عظمتها شعبيتها، وبإصرار ضد من يملكون كل السلاح وكل القوي.. ليس مكتوبا علي جبينهم إلا »أنا مصري« شعار حاولت ذيول وطوائف أن ينساها شعب مصر، ومن أن تكون هي شعار ومفتاح الثورة، تقطع الشك بملء اليقين، ولا ندع مجالا لمن يشكك في نسيج شعب مصر. هكذا يحاكم وهكذا يقول ويعلن بأنه لا أحد فوق القانون وليكون المتطاولون علي مصر في حجم الأقزام، فهل يوجد في العالم من يضع وزير الداخلية القوي وكل معاونيه في قفص الاتهام وإلي جوارهم الرئيس السابق ونجليه.. وبثورة سلمية ليحاسبوا علي ما اقترفوه في حق شباب أعزل تظاهر سلميا؟! خارج منطقة الشرق الأوسط تري نور مصرأكثر وأسطع مما يراه الأخرون، وذلك سر العظمة ولمن لم يدرك قوله تعالي »ادخلوها بسلام آمنين«. يقول الكاتب الأمريكي ديف ليفكورت.. ان محاكمة مبارك ونجليه جعلت مصر تعطي للعالم كله، درسا مفاده ورسالته أنه لا يوجد من هو فوق القانون، وأن القانون فوق الجميع، هكذا بدأ الكاتب مقاله تعليقا علي محاكمة الرئيس المخلوع مبارك، وأردف قائلا: ان مصر قد حققت ما لم تستطع الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها تحقيقه وأصبحت النموذج الذي يحتذي به في هذا السياق، مقارنا محاكمة مبارك في مصر، بما وصفه بالفشل الأمريكي بامتياز في تقديم أناس مثل الرئيس الأمريكي السابق بوش الصغير ورجال إدارته ديك تشيني ودونالد رامسفيلد للمحاكمة أو حتي المساءلة نتيجة لما ارتكبوه من فظائع وعلي رأسها الغزو الأمريكي للعراق واستخدام وسائل التعذيب في المعتقلات والسجون داخل وخارج أمريكا. ووصف الكاتب ما حدث في مصر بأنه يحرج أمريكا ويدخلها في مساحة الحرج بسبب مواقفها المخزية فيما يخص الجرائم علي مستوي المسئولين الكبار كما يجعلها متهمة بالنفاق في أعين العالم عندما تتحدث عن انتهاك حقوق الإنسان وممارسة العنف والقمع. هكذا يري العالم مصر الآن علي بعد آلاف الأميال ولايراها بعض من حولها أو ربما بعض من يعيشون فيها ولكنني هكذا رأيتها أم الدنيا ومعلمة الحضارة. إذن هي ثورة عبقرية بكل المعايير لم يسبق لها مثيل عبقريتها انها لم تحمل السلاح أو تخرب بل كانت رمزا للنقاء ونداؤها الوحيد سلمية.. سلمية وطريقها اسقاط النظام.. ثورة شعبية عالمية بكل المعايير مثلت فيها كل طبقات المجتمع وأطياف الشعب والشباب والعمال والفلاحين، سر عظمتها انها ليس لها قيادات معينة ومحددة تفقدها الجماعية وسماتها النقاء الثوري بعيدا عن السلطة أو السعي لها أو قرب منها ولكن الحرية كانت أعلي هدفا وإسقاط النظام وسيلتها لذلك.. فكل الثورات العالمية الشعبية لم تكن شعبية نقية فالثورة الرومانية ساهم فيها التدخل الروسي والأمريكي والأوروبي، والثورة البولندية كانت عمالية نقابية، والثورة الصينية شبابية وتم دهسهم في الميدان والثورة الروسية كانت ثورة العمال والفلاحين والثورة الأمريكية كانت ثورة طبقية للزنوج والأصول الأوروبية. وثورة 52 يناير متفردة ومتميزة عن باقي ثورات العالم، فلم تقم بسبب، وكنتيجة للثورة التونسية، فإن بوادر الثورة والتحضير لها استغرق سنوات حتي اكتملت الثورة شملت وساهم في قيامها أبناء الشعب المصري من أسوان حتي الاسكندرية وتسبب في اشعالها الفساد غير المسبوق والتجاوزات غير المبررة وانعدام الديمقراطية وحرمان الشعب من الحرية وصعوبة المعيشة علي السواد الأعظم من أبناء الشعب واللحوم الفاسدة والقمح الفاسد والمافيا التي تتحكم في استيرادهما وسكني القصور والفيلات والقبور التي ضاقت بسكانها وتزوير الانتخابات البرلمانية الفاضح! كان الشارع المصري يغلي وكانت الحريات الاجتماعية تواجه النظام الفاسد.. ثورة 52 يناير ليست وليدة للثورة التونسية ومن لم يدرك فعليه ان يراجع ما حدث في شوارع القاهرة وعلي سلم نقابة الصحفيين والمحامين للمطالبة بالحريات والداعية للتغيير السلمي ومن بينها حركة كفاية والسادس من ابريل والنشطاء السياسيون والكتاب والصحفيون الذين تصدوا للفساد والمطالبون بالديمقراطية ورفض التوريث والمطالبة بتغيير النظام منذ سنوات وتعرض كل هؤلاء للبطش والتنكيل فكان الرفض يزيد ولا يضعف وكان حادث الشاب خالد سعيد بالاسكندرية الذي اشعل شرارة الغضب والثورة وعدم الرضا الشعبي، والشعور العام بالظلم، فكانت الثورة ليست عن شخص بذاته لكنه نموذج كان يجب ان يعامل بحقه الإنساني فكانت الشرارة التي اشعلت الثورة في كل أطياف الشعب وفي كل ميادين التحرير وليس ثورة الشباب فقط. هذه الثورة المصرية هي التي أدخلت من نهبوا أموال الشعب المصري وأذلوه وتركوه عاطلا بلا عمل، جائعا بلا مأوي وأودعوا الأموال المسروقة في بنوك خارج مصر كي تدير آلة الاقتصاد الغربي، أدخلتهم القفص في مشهد تاريخي فريد ربما لن يتكرر، لأنهم نهبوا الثروات الطبيعية وباعوها بأبخس الأثمان لإسرائيل وفرطوا في مياه النيل باستعلائهم علي أشقائنا الأفارقة، انهوا وجود القطن المصري، وكانوا بسبيلهم إلي القضاء علي الأرز لكي يجوع الشعب المصري، وحينما يؤخذوا للمحاكمة أمام القاضي الطبيعي الذي حرموه علي الشعب المصري، حملوا المصاحف، وتلك سخرية من عقولنا ومن إيماننا لأنهم تصوروا ان حمل المصحف يحمي المجرم من المساءلة، وليس معقولا ولا متوافقا ان يقرأ المصحف أثناء المحاكمة، فلماذا حمله علاء وجمال أثناء المحاكمة! هل لاستجلاب البركة؟ وكيف تأتي البركة لمن أكل أموال الناس بالباطل وأزهق أرواح شباب الشهداء! أما كان يليق بهم ان يعيدوا أموال الناس إليهم قبل أن يحملوا المصاحف؟.. أما سمعوا ان هذا الكتاب لا يحمله إلا المطهرون؟.. فهل تطهروا مما أكلوه حراما من مال هذا الشعب وما شفطوه من دماء هذا الوطن!؟ كان أولي بهم أن يتحملوا المسئولية، كما يفعل الرجال لكنهم أبوا إلا الاستمرار في المراوغة والخداع.. ان استلقاء الرئيس السابق بهذا الشكل دون دواع طبية كما أكد الأطباء ان حالته الصحية جيدة، هو احتيال من نوع آخر يشبه احتيال من يخالفون القانون حينما يتم الإمساك بهم فيدعون المرض ويدعون العجز هربا من المساءلة.. وليس هذا خلق الرجال. ما حدث في المحاكمة يؤكد ان سلوك المتهمين هو سلوك من يعترف بذنبه في مسألة مخلة بالشرف.. ووضع يد علاء علي عدسة كاميرا التصوير سلوك غريب فالأبرياء لا يهربون من التصوير، وأي صاحب قضية لا يخفي وجهه ومن يفعل ذلك فإنه الشعور بالإحساس بالعار.. أما الضحك الذي ارتسم علي الوجه فلم يكن هناك ما يضحك.. فقد ابتهجت مصر كلها من أقصاها إلي أقصاها ولكنها لم تضحك! العادلي خرج من المحاكمة وعلي وجهه ابتسامة عريضة ويصافح الحرس الذي أدي له التحية علي انه وزير وليس سجين ويمشي كأنه يفتتح سجن جديد وليس متهم! سلوكيات المتهمين كانت شكلا من أشكال تزييف المشاعر لأنهم ليسوا أصحاب قضايا.. وما حدث يؤكد ان العلاقة بين الحاكم وشعبه علاقة تعاقد لأداء مهام محددة ان أصاب فله أجر، وأن أخطأ فعليه عقوبة، وهذا ما لم يسبق تطبيقه في مصر علي امتداد تاريخها.. ولكن ثورة 52 يناير وأبطال ميدان التحرير حولوه إلي واقع مرئي!